في كل لقاء عقد خلال الثورة السورية ما بين مسؤول أو باحث غربي من جهة وبين أي سياسي أو ناشط من جهة اخرى وعلى أي مسنوى، كان الطرف الغربي يطرح مخاوف الأقليات من المستقبل في حال انتصار الثورة، وفي نفس اللقاء كانت الردود المطمئنة حول المساواة في المواطنة والدولة المدنية تبسط أمام الطرف الغربي مع الإشارة إلى مئات البيانات وآلاف اللافتات والشعارات المغناة التي أطلقت في كل مناسبة أو مظاهرة أو لقاء أو تجمع جرى في ظل الثورة، ومن ذلك كل تجمعات رجال الدين والتشكيلات العسكرية والمدنية والقيادات الاجنماعية المناطقية للثورة، وفي كل هذه اللقاءات فشل الجميع في إقناع الطرف الغربي بصدق نواياهم وكأن الأمر سيكون في المستقبل بيد مجهول غير محدد إلا على انه متطرف، يختبيء اليوم لينقض على السلطة عند انهيار النظام فيقتل على أساس طائفي ويبني الدولة وفق ذلك أيضا فيضطهد الأقليات في حرياتها السياسية والاجتماعية والمعتقدية، طبعا هذه المخاوف كانت تعتمد في بداية الثورة وعهدها السلمي على متطرف متخيل والدليل الدامغ برأيهم إما إشاعة كاذبة من قبل النظام الأسدي عن شعار طائفي أو أن المظاهرات تخرج من المساجد، وبعد أن بدأت المقاومة المسلحة كان الدليل الدامغ هو صرخة الله وأكبر ولحية مقاتل لا يجد غالبا وقتا لحلاقتها، وبعد عام ونصف من الثورة بدأت جبهة النصرة بالظهور دون أن تبدي موقفا عدائيا واحدا لا عمليا ولا لفظيا تجاه الأقليات لكنها كانت سببا كافيا للغرب والنظام معا ليخفوا الشمس بإصبعهم ويضخموها عددا ونفوذا، وطبعا يتم دائما التركيز السياسي والإعلامي على تجاوزات فردية قليلة جدا من قبل بعض الثوار (وقد دخل فيهم قلة من السيئين)، يضاف أنه خلال ما يقارب العامين إلا بضعة أشهر لم يكن هناك حتى تعليقات على الإنترنت تحمل أي نفس طائفي وإن بدات بالظهور مؤخرا نتيجة الحجم الهائل من القتل والإجرام الذي ارتكب على أساس طائفي وفق سياسة مارسها النظام منذ اليوم الأول للثورة في كل المجالات مستخدما ومثيرا كل الأقليات ما استطاع دون أي أساس واقعي.
قبل الثورة ولمدة سنوات كنت أعتقد انني وآخرون قد أقنعنا دبلوماسيا غربيا بزيف فزاعة التطرف التي يستخدمها النظام لاستجلاب الدعم لوجوده، لكن هذا الدبلوماسي بعد عودته حاضر في مجموعة من الباحثين في بلده ليقول لهم (قبل الثورة ببضعة أشهر) : “نحن ندرك أن هذا النظام إستبدادي أقلوي لكنه يحمينا من الإرهاب الذي ستنتجه الاكثرية إن وصلت إلى السلطة كما أنه حامي الاقليات من بطش تطرف الأكثرية وأخيرا هو نظام قد اختار السلام كخيار استراتيجي مع إسرائيل”، وهكذا لخص هذا الدبلوماسي الرؤية الغربية التي تفترض حكما تطرف الأكثرية السنية، وهي رؤية من الواضح بعد أكثر من عامين من الثورة وكل جرائم النظام وكل ما قدمه الثوار من تطمينات أشرت لها، من الواضح أن هذه المقاربة لا زالت تسيطر على العقل الغربي الذي باتت استماتته فاضحة لتمرير مفهومه عن “الحل السياسي” الذي يحافظ عمليا على السيطرة الأقلوية على مفاصل الدولة خاصة الأمنية والعسكرية منها.
أيضا وجدت بروبوغاندا النظام هذه استجابة كبيرة لدى معظم الأقليات (وتختلف من جهة لأخرى)، ساعده بذلك العديد من رجال دين هذه الطوائف وقادتها الاجتماعيين الذين لم يتورعوا عن الكذب في كل محفل غربي باختلاق أكاذيب، فعلى سبيل المثال لا الحصر أخبرني صديق مسيحي يوما عن جداله مع رجل دين من طائفته (في بدايات الثورة) بعد أن سرد في اجتماع بحضور صديقي هذا مع مسؤولين غربيين، سرد مجموعة من الروايات المختلقة من قبل أجهزة مخابرات النظام (كما أقر رجل الدين هذا لاحقا) مبررا ذلك أمام الصديق بأن هذه ضرورية لإقناع الغرب بعدم ممارسة أي ضغوط على النظام، وهي حادثة تكررت مرات عديدة وتقاطعت معي شخصيا في حالات عديدة، لكني لن أنسى يوما ذهبت فيه بعد أشهر من الثورة السلمية وقتل السوريين المتظاهرين كالعصافير من قبل النظام وإهانتهم وسرقتهم وتعذيبهم، ذهبت إلى لقاء رتبته مع مطران ذو مركز ديني رفيع في مطرانيته، حيث ذهبت برفقة رجل دين إسلامي له دور وحضور كبير حاليا، وبعد ثلاث ساعات من “التطمينات” وشرح مضامين الثورة التي كانت غير مسلحة بعد، كانت النتيجة أن توصل المطران إلى نتيجة تفيد بأننا (نحن الإثنين) ربما أثبتنا حسن نيتنا لكن هناك ملايين آخرين ليسوا كذلك ولا سبيل لإصلاحهم فالمشكلة برأيه تكمن في أساس المرجعية الثقافية لهذه الأكثرية وتحتاج لجهد أجيال “لتغييرها” لا لثورة تسقط النظام الحامي، وختمها بان أبدى انزعاجه من تسمية إحدى الجمع باسم “الجمعة العظيمة” التي صادفت هذا اليوم المقدس لدى المسيحيين فقد رأى في ذلك إساءة للمناسبة بربطها بيوم جمعة من جمع الثورة، بدل أن يرى فيها بادرة محبة كلفت في تلك الجمعة (في الأشهر الأولى للثورة)، كلفت ما يقارب مائة وثلاثين شهيدا سلميا موثق بالإسم (عدا المختفين)، بعضهم كان يحمل ورودا قدمها أو ليقدمها لبعض الكنائس في منطقته، وبعضهم قتل وهو يحمل لافتات رسم عليها صليب وهلال وعبرات الوحدة الوطنية، وفي نفس المقلب تجد أن التيار المسيطر المؤيد للنظام داخل هذه الأقليات يصف كل من أيد الثورة من أفراد هذه الطوائف بالخونة ليضطهدهم ويسفه النشطاء والشهداء منهم.
ما جرى هنا في المعسكر المسيحي حصل بدرجات مختلفة (أكثر أو أقل) في أوساط كل الأقليات، وكانت رؤية هؤلاء التي قدموها للمجتمع الدولي : “الضمانة الوحيدة المقبولة لديهم هي بقاء النظام بل وبقاء العائلة الحاكمة” وبالتالي التبرير بل والتاييد الضمني لكل جرائم النظام ووحشيته.
لكن الواقع شيء مختلف تماما، فمن الواضح أن النظام آيل للسقوط وأن هذه الأكثرية لابد أن تستعيد حقوقها باعتبار أفرادها مواطنين كاملي الحقوق (وليس لأنهم أكثرية)، وهي التي سلبت تلك الحقوق طوال نصف قرن من قبل نظام طائفي حتى النخاع، ومن الواضح أن هذه المواقف السلبية بل والمؤيدة للنظام من قبل تيار كبير في معظم هذه الاقليات يخلق شرخا اجتماعيا حقيقيا يزداد بازدياد عمر النظام، فقد كان جل ما يطلبه السوريون التواقون للحرية من هؤلاء البقاء على الحياد لكن استخدام النظام لبعض من قادتهم الاجتماعيين والدينيين وشبابهم إعلاميا وميدانيا في عمليات قذرة عديدة لتوريطهم بشكل مباشر بتشجيع من الغالبية الشعبية بينهم قد أعطى نتائج سلبية، واليوم لازالت مسألة التطمينات مطروحة بنفس الطريقة المخادعة لكن الفشل بات واضحا، فالنظام لن يبقى وسيسقط عسكريا بعيدا عن أوهام الحلول السياسية وستذهب معه كل الامتيازات الطائفية، ويبقى هؤلاء الخائفين الذين غشت بصيرتهم أوهام نصر طائفي بامتياز على الثورة في بدايتها، وأفلتوا عنان المشاعر الطائفية المريضة التي بدات بالخوف من المستقبل وما رافق ذلك من مشاعر الحقد على العدو المتوهم لتتحول مع الزمن إلى معركة طائفية يغذيها حقد وعصبوية بغض النظر عن السبب الذي ابتدأت به أي الخوف من المستقبل الذي أخذ منحى آخر ليصبح الخوف من الانتقام نتيجة الجرائم المريعة التي ارتكبت بحق الأكثرية من منطلق طائفي.
إن المخرج يكمن في بحث العقلاء من الأقليات عن نوع آخر من التطمينات الواقعية، تطمينات تستند على تأييد إسقاط النظام بشكل كامل وواضح مع تأييد قيام دولة مدنية حقيقية خالية تماما من عائلة الاستبداد وأجهزتها وتركيبتها الطائفية، دولة ديموقراطية ستحكمها الاكثرية كنتاج طبيعي وبالتالي فجهد الأقليات يجب أن ينصب على دستور مدني يحفظ الحقوق المتساوية والحريات دون الدخول في محاصصة طائفية أو تقسيم لسوريا تحت أي مسمى (كالفيدرالية واللامركزية السياسية … الخ) وهو ما لن يمر تحت أي ضغط، أن ينصب الجهد على عملية ديموقراطية حقيقية لا على دعم الديكتاتور ونظامه الطائفي فهو زائل مع ضماناته المزيفة لا محالة، بذلك وبمشاركة الأقليات الإيجابي في الثورة سيتحول مفهوم الأكثرية بسرعة إلى أكثرية سياسية في مقابل اقلية سياسية لتندمج الأكثرية والأقليات في كليهما كما كان الوضع قبل هذا النظام الطائفي، كما أنه لا سبيل للوصول إلى هذه النتيجة إلا ببدا المسير وتحمل المشقات في البداية حيث ليس من الممكن القفز إلى هذه النتيجة دون هذا المسار بحكم قانون التاريخ والاجتماع، أما المعبر الوحيد المتاح لعقد شراكة مع الأكثرية التي دفعت ثمنا باهظا لحريتها فيكمن في الدخول في شراكة حقيقية معها ولو في هذه المراحل الأخيرة لإسقاط النظام لتصبح هذه الأقليات شريكا في التغيير مما سيتيح لها أن تكون شريكا قويا في رسم صورة سوريا الجديدة، ويكفي موقف سياسي علني مؤيد للثورة داخل سوريا وطبعا وبشكل واضح في الأوساط الدولية لتحقيق هذه الشراكة، ليكون دورهم الرئيسي والوحيد المطلوب هو رفع الغطاء السياسي عن النظام دوليا (بعكس ما يجري اليوم) وذلك لإعطاء الإشارات الإيجابية للأكثرية كمقدمة لشراكة متكافئة بعد سقوط النظام.
أخيرا، على الاقليات في سوريا الجديدة الآتية لا محالة، عليها أن تدرك أنها من يصنع ضماناتها بمواقفها فلن تستطيع قوة في العالم فرض ضمانات على أكثرية على وشك أن تهزم واحدة من أعتى الديكتاتوريات المتوحشة المرتبطة بواحدة من أعقد التقاطعات الدولية وأكثرها قذارة، عليهم أن يعوا أن هذه الضمانات لا يمكن أن تتجاوز العدالة التي ستأخذ مجراها بحق كل من أجرم كممر إجباري للمستقبل بالنسبة لجميع الأطراف، وليعلم كل من ينادي بضمانات للأقليات وقد تناسى أنهم لم ليكونوا موجودين أصلا لولا لاطائفية الأكثرية، ليعلموا جميعا أنه من المعيب الصراخ من أجل حقوق الأقليات المستقبلية واحتمال انتهاكها وفي نفس الوقت تناسي أن الأكثرية قد انتهكت حقوقها طوال نصف قرن على أساس طائفي ويشكل خاص وفاضح طوال الثورة ويخطط لاستمرار ذلك ولو بشكل مخفف تحت ستار “إعطاء الضمانات للأقليات” في إطار الحلول السياسية التي يتوهم المجتمع الدولي بإمكانية فرضها، فالغرب لم يتورع عن ارتكاب هذه الجريمة الأخلاقية عندما دعم ولازال نظاما طائفيا يسحق حقوق الاكثرية بكل الوسائل وأشنعها من أجل كذبة ابتدعها منذ قرن ونصف إسمها صون حقوق الأقليات، على هذه الأقليات أن تعلم أن أكبر إساءة وضرر لها ولحقوقها في سوريا يأتي من كل من الغرب وسياساته والنظام الاستبدادي الطائفي الحالي مختبئين خلف حرصهم على حقوق هذه الأقليات ليحولوا هذه الأقليات إلى دريئة لهم تحمي مصالحهم على حساب مصالح هذه الأقليات التي وضعت في الواجهة.