هذه قصة أوجزتها من كتب الأدب والتاريخ، تاركاً للقارئ الكريم أن يستنبط منها الدروس والعبر، وأن يتحمّل تعليقي في نهايتها.
ففي أيام الخليفة “سليمان بن عبد الملك” عاش “خُزيمة بن بِشر” في منطقة الرقة في بلاد الشام، وكان صاحب مروءة وكرم وفضل. لكن الدنيا لا تدوم. إذ تغيرت أحواله واحتاج إلى أصحابه الذين كان يتفضل عليهم فيما مضى من الأيام، فواسوه فترة، ثم تخلوا عنه. فلزم بيته، وانقطع عن مجلس والي الجزيرة الشامية “عكرمة الفيّاض الرّبعيّ” ومجلس الخليفة. وبعد مدة افتقده الوالي فسأل عنه، فأخبروه عن حاله، فصمت، لكنه أضمر في نفسه شيئاً.
فلمّا كان الليل، أخرج الوالي أربعة آلاف دينار، ووضعها في كيس، ثم خرج متنكّراً متخفيّاً حتى وصل دار خزيمة، فقرع الباب، فخرج خزيمة، فناوله الكيس، وقال له: أصلح بهذا حالك! فسأله خزيمة: من أنت، جُعِلتُ فِداك؟ فقال: أنا “جابر عثرات الكرام”! ثم تركه ومضى.
وفي الصباح، قام خزيمة وأصلح من حاله، وسدد الديون التي عليه، ثم جهّز نفسه وسافر ليحضر مجلس الخليفة. فلما دخل عليه قال سليمان: ما أبطأك عني؟ قال: سوء الحال! قال سليمان: ما منعك من النهوض إلينا؟ قال: ضعفي عنها! فسأله: فبِمَ نهضتَ؟ فأخبره بقصة “جابر عثرات الكرام”.
قال سليمان: هل عرفتَه؟ قال: ما عرفتُه! فقد كان متنكراً. فتأسّفَ سليمان وقال: لو عرفناه لأعَنّاهُ على مروءته وأكرمناه. ثم إن الخليفة عيّن خزيمة أميراً على الجزيرة (وهي المنطقة بين نهري دجلة والفرات)، مكان عكرمة!
ومضى خزيمة إلى الجزيرة، وأصبح والياً عليها. لكنه وجد ديوناً على عكرمة، فبعث إليه في أدائها. فقال عكرمة: ما عندي منها شيء! فأمر أن يُسجَن ويُكَبّلَ بالحديد، فأقام على ذلك شهراً. فأرسلت امرأة عكرمة جاريتها لتقول للوالي: أهذا جزاءُ “جابر عثرات الكرام” منك؟ فصاح خزيمة: وا سَوأتاه!
ثم بعث إلى وجوه أهل البلد فجمعهم، وخرج بهم إلى السجن، ودخل هو ومن معه على عكرمة وأكَبّ على رأسه يُقَبِّلُهُ. ثم أمر بفك القيد من رِجلي عكرمة ليوضع في رِجليه هو، ليناله من الضر مثل ما نال عكرمة. فقال عكرمة: والله لا كان ذلك!
ثم إن خزيمة أخذ معه عكرمة وسارا إلى سليمان بن عبد الملك ليعرّفه بـ “جابر عثرات الكرام”، فرحّبَ به الخليفة، وأدنى مجلسه، وقال له: ارفع حوائجك كلها. فقال: اعفني يا أمير المؤمنين. قال: لا بُدّ. ثم قضى له حوائجه وأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم عَيّنه أميراً على الجزيرة وأذربيجان وأرمينيا، وقال له: أمرُ خزيمة لك، إن شئتَ فاعزله، وإن شئتَ فاتركه في عمله. فقال: بل أزيده عملاً إلى عمله يا أمير المؤمنين.
لله درّك يا عكرمة، فأنت تعرف أن الكرام إذا كَبَوا يحتاجون لمن يجبر عثرتهم، فكنتَ لها! فقد أبتْ عليك مروءتك أن ترى رجلاً واحداً من كرام الناس في الجزيرة الشامية في ضيق، وأنت تعرف قَدْرَه ومكانته، بل إنك تحمّلت الأذى في سبيل ذلك من أجل ألا تمنّ عليه، ومن أجل ألا يعرف معروفَك أحدٌ. فبالله عليك ماذا كنت ستفعل إذا رأيت ملايين أهل الشام وقد هُدّمت بيوتهم وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، فساءت أحوالهم بعد أن كانوا أهل فضل؟ أخالُك تقول: ما يمنعكم أن تكونوا جميعاً مثل “جابر عثرات الكرام”؟ لاسيما وأنتم اليوم لا تحتاجون للتنكّر والتخفّي لتوصلوا أعطياتكم، فالمنظمات الإغاثية المرخّصة المعتمدة تقوم بهذه المهمة نيابة عنكم.
ولله درّك يا سليمان، فأنت لم ترضَ أن يسبقك أحد في المروءة والشهامة، فإذا بك تتلمّس لتعرف من هذا الذي ربما سبقك هذه المرة، فأردت أن تكرمه ليزداد عطاؤه. ولله درّك يا خزيمة، فقد أنصفت عكرمة من نفسك، وذهبت به إلى الخليفة ليكافئه. ولله درّكم جميعا فقد قلتم بلسان الحال والمقال:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس