(1) رغم أن الغارات الإسرائيلية على مواقع عسكرية في دمشق استأثرت بالقَدْر الأكبر من الاهتمام مؤخراً، إلا أن الحدث الأهم هو الذي بدأ قبلها وما يزال مستمراً بعدها في بانياس والساحل. وكلا الأمرين يجتمعان في سياق واحد مع عدة أمور أخرى تذكّرنا بترتيب البيادق على رقعة الشطرنج استعداداً لضرب الملك، وتدفعنا إلى طرح خمسة أسئلة مهمة:
1- لماذا أدخل النظام السلاحَ الكيماوي في المعركة أخيراً؟ هل صنع ذلك لأنه أدرك أن معركته مع الثورة خاسرة لا محالة، وأن كل ما يملكه من أسلحة لم يحقق له الانتصار المأمول، فدفعه اليأس إلى السلاح الأخير رغم علمه بما قد يجره عليه من أخطار وأضرار؟
2- لماذا كشف حزب الله اللثام وأعلن الحرب الفاجرة على السوريين؟ هل صنع ذلك لأنه أدرك (هو أو أولياؤه في طهران) أن النظام يتراجع باستمرار وأن الثورة تقترب من الانتصار، فلم يبقَ له من خيار سوى المغامرة برمي الأوراق كلها كما يصنع المقامرون على طاولة القمار؟
3- لماذا بدأ الإيرانيون بنقل السلاح الفتاك من مستودعات الحليف السوري إلى مستودعات الحليف اللبناني؟ هل صنعوا ذلك لأنهم يدركون أن فرصة النظام السوري في البقاء تتضاءل يوماً بعد يوم، فقرروا إنقاذ ما يمكن إنقاذه على مبدأ القبول بأهون الخسارتين؟
4- لماذا قصفت إسرائيل الآن أسلحةً يملكها النظام (أو يملك أمثالها) منذ سنوات؟ هل صنعت ذلك لأن تلك الأسلحة يمكن أن تنقل إلى حزب الله كما تقول، أم لأنها علمت أن النظام يقترب من نهايته وأن تلك الأسلحة ستخرج من يد الصديق المضمون إلى أيدي الثوار الأحرار؟
عندما ننظر إلى الأحداث السابقة مفرّقةً بلا جامع يجمعها فقد لا نفعل شيئاً سوى الشجب والاستنكار، ولكن إذا اقتنعنا بأنها مترابطة كلها معاً وأنها تدخل في باب “إعادة ترتيب الأوراق” استباقاً لسقوط النظام الوشيك، إذا اقتنعنا بذلك فإننا سوف نجد أنفسنا مدفوعين إلى الحذر والتفكير، وإلى مدّ اليد للقبض على ما يمكن القبض عليه من أوراق لنشارك في ترتيبها كما يفعل الآخرون. وعندئذ سنصل إلى السؤال الخامس والأخير: لماذا ازدادت مذابح النظام مؤخراً، ولماذا بالذات في مدن الساحل التي أمضت عشرين شهراً في هدوء بعيداً عن الحرب التي امتدت على رقعة البلاد الواسعة كلها؟
هذا السؤال لن نمر عليه سريعاً لأنه أخطر الأسئلة وأهمها، ولأنه يتعلق بحدث لا يكفي فيه الشجب والاستنكار، حدث يمكننا أن نصنع شيئاً بشأنه، بل “يجب” أن نصنع شيئاً قبل أن يفوت الأوان ونقول لما قد يكون: ليته ما كان!
(2) الملاحَظ أن الأسابيع الأربعة الأخيرة هي “موسم المجازر”؛ بدأت بمجزرة الصنمين في العاشر من نيسان، وبعدها بأسبوع وقعت مجزرة البويضة، وقد بلغ عدد شهداء كل من المجزرتين بضعة وستين استشهدوا بالرصاص الحي والسلاح الأبيض. بعد ذلك بأربعة أيام بدأت واحدة من أبشع وأفظع مجازر الثورة واستمرت لعدة أيام في جدَيْدة الفضل بريف دمشق، وأخيراً مجزرة البيضا ومجزرة بانياس المروعتين اللتين لم تتكشف فصولهما الكاملة حتى الآن.
إن النظام يزداد شراسة وإجراماً كلما اقترب من خط النهاية، ولعله ارتكب معظم المجازر السابقة لترويع المدنيين وحملهم على التخلي عن احتضان الكتائب المقاتلة، ولكن هذا الهدف لا يبدو محتمَلاً في مذبحة الساحل التي ما تزال آثارها الخطيرة مرشحة للتعاظم لا قدر الله، فقد وقعت في منطقة هادئة لم تشهد أي عمليات للجيش الحر، فما هو الدافع إليها؟
لو نظرنا إلى هذه المذبحة من حيث عدد ضحاياها فإننا سنجدها واحدة من أسوأ خمس مذابح في تاريخ الثورة السورية (الأربع السابقة هي مذبحة ساحة الساعة في حمص ومذبحة مساكن صيدا بمدينة درعا في نيسان 2011، ومذبحة داريا في آب 2012، ومذبحة جديدة الفضل الأخيرة)، ولكننا سنجدها أسوأ المذابح على الإطلاق عندما ننظر إليها من حيث آثارها، لأنها من أصرح حملات التطهير العرقي التي تشهدها سوريا منذ بداية الثورة، فهي تهدف بشكل سافر إلى إخلاء مناطق جغرافية كاملة من سكانها الأصليين من المسلمين السنّة وتخصيصها للعلويين، وهذا الأمر يبدو منسجماً مع الأحداث الأخرى ويجري في السياق نفسه، فإن اقتراب سقوط النظام قد يكون هو القادح الرئيسي لحملة تطهير عرقي واسعة في منطقة الساحل بهدف إنشاء الدويلة العلوية لا قدّر الله.
(3) قسم نظام الاحتلال الأسدي الطائفي منطقة الساحل إلى محافظتين، اللاذقية وطرطوس، وهذا التقسيم المصطنع الغريب أنتج محافظة ذات أغلبية علوية (نصيرية)، هي محافظة طرطوس التي وقعت فيها المذابح الأخيرة، والتي يعيش فيها مئتا ألف من المسلمين السنّة وسط بحر علوي يضم نحو ستمئة ألف شخص. ويتركز أكثر أهل السنة في مدينة بانياس حيث يمثلون ثلاثة أرباع سكانها، وفي طرطوس التي يشكلون نصف سكانها تقريباً، وفي بعض القرى القريبة من المدينتين (كالبيضا وبيت جناد والباصية وبساتين إسلام والمرقب والعديمة وسهم البحر والقرير والحميدية والبساتين والمتراس وعين دابش وبدادا وشيخ جابر وخربة الأكراد).
الأخبار التي وردت من بانياس تحدثت عن حصار ومذابح فظيعة وقصف عشوائي من البر والبحر، وفي مثل تلك الحالات فإن رد الفعل الطبيعي هو النزوح، وهو ما حاول الآلاف القيام به فعلاً، ولكن حواجز الشبيحة وجيش الاحتلال منعت الفارين من العبور إلى جبلة شمالاً أو طرطوس جنوباً إلا بشرط صارم، وهو توقيع وثائق تفيد بتنازلهم عن أملاكهم في المدينة. ما معنى هذا الشرط الغريب؟ إنه يعني -ببساطة- إنهاء الوجود السني في المناطق ذات الأغلبية العلوية بطريقة قانونية قد لا نستطيع معالجة آثارها في المستقبل، بطريقة من شأنها أن تمهد الطريق لقيام دويلة علوية يتقبلها ويعترف بها المجتمع الدولي كما تقبل دويلة إسرائيل واعترف بها قبل خمسة وستين عاماً.
إن جميع المدن والقرى السنّية في محافظة طرطوس تعيش في فم البركان، ولا بد من تصنيفها على أنها من أشد المناطق خطورة في سوريا اليوم، فهي تُمسي وتصبح تحت خطر الإبادة والتطهير العرقي الذي يهدف إلى محو المكوّن السني في المحافظة وتحويلها إلى منطقة علوية نصيرية صافية. ويمتد الخطر أيضاً إلى جبلة في الشمال، وهي مدينة سنّية محاطة بريف علوي بالكامل تقريباً، بل وإلى مدينة اللاذقية نفسها وريفها السني القريب. هل ينبغي علينا أن نكتفي بالمراقبة والصمت؟ إن هذا لا يجوز؛ لا بد من تحرك سريع قبل فوات الأوان.
(4) لو أن أمر الجيش الحر كان في يدي فسوف أحتفظ بنصف مقاتليه في مناطق الشمال المحررة وأدفع بالنصف الآخر كله إلى ريف إدلب الشمالي، ومن هناك سوف تبدأ تلك القوة حملة عسكرية كبرى في محورين كبيرين: المحور الأول يمتد على الطريق الرئيسي الذي يقع جزء منه تحت سيطرة الجيش الحر حالياً، من سراقب إلى معرة النعمان وخان شيخون، ثم إلى ريف حماة الغربي وصولاً إلى مدينة حماة نفسها. المحور الثاني يبدأ باستعادة جسر الشغور ثم الانطلاق باتجاه معبر كسب، ومن ثَمّ التحرك على طريق الساحل إلى اللاذقية -مروراً بقسطل معاف وبرج إسلام وبقية القرى السنية المحاذية للساحل- ثم الانطلاق جنوباً إلى جبلة فبانياس وطرطوس وصولاً إلى الحدود اللبنانية.
إن حملة عسكرية بالوصف السابق تبدو صعبة جداً، ولا سيما مع نقص الأسلحة والذخائر، ولكنها معركة لا بد منها آجلاً أو عاجلاً، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تزايد الضغط الخارجي على الثورة وتكاثر محاولات التحكم بالجيش الحر والسيطرة عليه، فإننا سنجد أن تعجيل المعركة أَولى من تأجيلها، وهي ستصبح من الأولويات إذا ما أخذنا فوائدها بعين الاعتبار. قد لا أستطيع حصر الفوائد كلها، ولكني أستطيع أن أقدم ما يكفي منها لتبرير البدء بهذه المعركة مهما تكن الصعوبات والمعوقات:
1- من ثمرات التعجيل بتلك الحملة منع المزيد من المذابح (التي أخشى أن تتكاثر كلما اقترب النظام من حتفه) وحماية المناطق الساحلية من أخطار التطهير العرقي، وقطع الطريق على مشروع الدويلة العلوية المحتملة.
2- ومن فوائدها المتوقعة السيطرة على مقادير كبيرة من الأسلحة التي يخزنها النظام في مستودعات الساحل والتي يمكن أن تعوض كل ما سوف يُستهلَك في تلك المعركة وتزيد عليه، كما أن سيطرة الثوار على المنافذ البحرية سوف يتيح للثورة الاتصال بالعالم الخارجي بحراً ويعزز وضعها كبديل عن النظام المتهاوي.
3- ثم إن تحرير الشريط الساحلي (الذي يتكون في معظمه من تجمعات سكانية سنّية) وريف إدلب وحماة الغربي من شأنه أن يعزل الداخل العلوي، فتصبح مناطق صافيتا ودريكيش والشيخ بدر والقدموس ومصياف (التي تضم مئات القرى العلوية، وهي من أهم مستودعات النظام البشرية ومن المصادر الرئيسية للشبيحة وقوى الأمن والمخابرات والتشكيلات الطائفية في جيش الاحتلال) تصبح محصورة ومحاصرة بأراض محررة، وهذا من شأنه أن يُفقد النظام القدرة على تعويض خسائره البشرية وأن يخفف الضغط على مدن وقرى حمص وحماة.
4- ولعل من أهم فوائد هذه الحملة أن تكسر الجمود الذي سيطر على الأرض منذ عدة أشهر وأن تحرّك المعركة باتجاه الحسم في دمشق.
إن تجميد الوضع الميداني على الأرض وتثبيت خطوط التماس لفترات طويلة ليس في مصلحة الثورة أبداً، وهو من الأمور التي يسعى المجتمع الدولي إلى تكريسها من خلال محاصرة الثورة ومنع تسليحها، في حين يستغل العدو الوقتَ الضائع لحشد قواه وتعويض الفاقد من الأسلحة والذخائر، كما يقوم بإدخال آلاف من المقاتلين الطائفيين من إيران والعراق ولبنان ويدفعهم إلى جبهات القتال.
كما أن الثورة تخسر عنفوانها عندما يستقر المقاتلون في المدن ويتأقلمون مع حياتها المستقرة، فتصعب إعادتهم إلى الجبهات وتزداد المشكلات الناشئة من احتكاكهم المستمر بالسكان المدنيين، وغالباً فإن السلبيات التي تنشأ من ذلك الوضع الجديد تُضعف الرابطة القديمة بين المقاتلين وحاضنتهم الشعبية، بعكس حالة القتال والاشتباك الدائم التي تقوّي تلك الرابطة وتوثقها وتزيد اللحمة بين الفريقين.