تعرضت الثورة من أيامها الأولى إلى محاولات اغتيال لم تنقطع، ابتداء بالتفويض الذي منحه المجتمع الدولي للنظام لقتل الثورة قتلاً ناعماً بلا ضجيج، ثم التفويض الآخر لقتلها قتلاً وحشياً بلا رحمة، مروراً بحصار الثورة وحرمانها من الدعم والسلاح، والمبادرات التي قدمتها الجامعة العربية والأمم المتحدة لإجهاض الثورة وتفريغها من مضمونها الحقيقي، فلمّا لم تفلح أيٌّ منها في قتل الثورة اجتمعت المؤسستان معاً وفوّضتا الغراب الأخضر بالإجهاز على الثورة بدبلوماسية الخيانة التي اشتُهر بها فيما مضى من الأيام.
ولكن سفينة الثورة قاومت الأمواج وصمدت في وجه الأعاصير واخترقت البحر الزخّار بسلام، حتى إذا لم يبقَ بينها وبين ميناء الانتصار إلا قليل عَمّ الفزع ووقع الاضطراب في أنحاء المعمورة وتداعى القوم لعقد المؤتمر الأخير، مؤتمر إعدام الثورة علناً بعدما فشلوا في اغتيالها في الخفاء. مؤتمر زعموه للسلام وما هو إلا مؤتمر الاستسلام، مؤتمر المؤامرة الكبرى على بني الإسلام وعلى ثورة أهل الشام.
إنه مؤتمر “الفرصة الأخيرة” كما توحي كل الإشارات والاستعدادات، ولعله خاتمة المؤامرات، فقد التقى فيه الشرق والغرب اللذان لا يلتقيان، واتفق الخصمان اللذان لا يتفقان، التقى الجميع وأجمعوا على الرأي القاطع بوقف الثورة بأي ثمن. لقد طبخوا الطبخة التي يحبون لا الطبخة التي نحب، ثم لم يداروا ولم يخجلوا، بل أعلنوا بكل صراحة أنهم سيجبروننا على أكل ما يطبخون!
* * *
قرأ أحد الفضلاء مقالتي الأخيرة (لسنا مماليك ولستم مالكين) فقال إنها كلام فارغ لا يترتب عليه فعل ولا يُبنى عليه عمل، وهذا ممكن، ولكنّ نقيضه أيضاً ممكن، بل هو المتوقع من شعب أدرك أخيراً مكانه تحت الشمس، شعب لم يَحنِ قامتَه الإعصارُ ولم تكسر إرادتَه أقوى قوى الشر والطغيان في هذا الزمان، ومن أجل ذلك كتبت هذه المقالة.
فاضل آخر قرأ المقالة فقال إنها كتابة طفل لا خبرةَ له بالسياسة ولا يفقه شيئاً فيها. وأنا أعترف بأنني قليل الحيلة في هذا العالم المعقد الذي يسمونه سياسة، ولكني أحسن قراءة الأحداث والاستفادة منها بإذن الله، وقد اجتهدت في دراسة ثورات إخواننا الذين سبقونا على الدرب، وأحببت أن لا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء، ولا سيما الأخطاء القاتلة التي يصعب تصحيحها أو يكاد يستحيل.
لم يخبرني أحد بما اتفق عليها وزيرا خارجية الدولتين الكبيرتين، ولكني فهمت -كما فهم كل من تابع لقاءهما المشؤوم- أن الدولتين اللتين كانتا شر عدو للشعب السوري منذ ستين عاماً ما تزالان شر الأعداء، وأنهما قد اتفقتا على قهر السوريين وإنهاء ثورتهم قبل أن تحقق هدفَها الذي قامت من أجله، وأنهما ستفرضان علينا حلاً توفيقياً يقوم على مشاركة الطرفين -الثورة والنظام- في حكم سوريا، وعلى بقاء جزء كبير من منظومة الحكم السابقة! وبما أن أي جديد لم يُذكَر عن الأجهزة الأمنية والعسكرية فإننا مضطرون إلى العودة إلى التصريحات العلنية القديمة، وهي كثيرة، والتي تقرر بوضوح أنهم يريدون المحافظة على الهياكل الرئيسية للأجهزة الأمنية، وأنهم يحرصون على إجراء أقل التغييرات في القيادات العسكرية لجيش الاحتلال الطائفي الذي حكم سوريا خلال نصف القرن الأخير.
باختصار: لقد “فصّلوا” لنا حلاً يؤلف بين الحل اليمني الذي جمع الخصمين في حكومة واحدة واكتفى بأقل التغيير في أجهزة الأمن وسائر مؤسسات الدولة، والحل المصري الذي طيّر الرئيس وحفنةً من عصابته ولكنه لم يمسّ المؤسسة العسكرية وكرس بقاء مؤسستَي القضاء والإعلام اللتين صنعهما النظام الزائل. ما رأيكم بحل من هذا النوع في سوريا بعد كل الذي كان؟
ربما غيروا اسم فرع فلسطين فصار اسمه فرع الأندلس، وقد يعزلون رئيسه ومساعد الرئيس، وسوف يحاكَمان -مع بقية أفراد العصابة- في محاكمة تستمر ثلاث سنوات أو خمساً أو عشراً، ولا يُستبعَد أن تُصدر المحاكم في النهاية أحكاماً ببراءتهم جميعاً. ومن الذي سيجرّمهم؟ أليس القضاء الجديد هو القضاء القديم نفسه؟ ألن يشارك عدد من أركان العهد القديم في تشكيل حكومات العهد الجديد؟ أليس هذا ما يقوله الأميركيون والروس وهو الذي يريدون؟
بئس الذي يقولون وبئس الذي يريدون، لا والله لا يكون ما يريدون وفينا نَفَس يتردد. أنعود إلى حيث كنا بعد رحلة العذاب والأهوال التي استمرت ستة وعشرين شهراً؟ أنرضى بتضييع الحرية ولم نصل إليها إلا بالثمن النفيس؟ الحرية التي أهرقنا في سبيلها بحراً من الدماء الزكية؟ الحرية التي استُشهد في سبيلها وعُذّب من أجلها وشُرّد عشرةُ ملايين؟ لا والله لا يكون.
* * *
لا بد أن نعترف بأمر مؤلم. لقد نجح الأعداء -بعد محاولات مضنية استمرت سنتين- في اختراق جسم الثورة السياسي وجسمها العسكري، فصار لهم في المؤسسات السياسية رجال من شأنهم أن يقبلوا المشروع الجديد وأن يروّجوه، ولهم على الأرض كتائب قد يستعملونها في قتال الكتائب الشريفة التي سترفض الحل السلمي الاستسلامي. هؤلاء ليسوا كثيرين، ولكنهم قد ينجحون في اغتيال الثورة وفرض الحل الدولي على سوريا إذا غابت القوة الكبرى وانسحبت من الميدان.
ما هي القوة الكبرى التي عليها التعويل وفيها الأمل بعد الله عز وجل؟ إنها ليست أجهزة الثورة السياسية بالتأكيد، فقد كانت هي أضعفَ الحلقات على الدوام، وليست الكتائب المقاتلة كما قد يظن كثيرون، فإنها يمكن أن تحارَب وتُخنَق بالحصار ومنع المال والسلاح. إن القوة الحقيقية هي قوة الجماهير، هي الكتلة الثورية الكبرى التي تضم ملايين السوريين؛ أولئك الذين فجّروا الثورة وحملوها وحَمَوها في أقسى الظروف وأحلك ساعات الليل، الذين صمدوا -بلا سلاح- في وجه أفظع وأبشع آلات القتل والإجرام، هؤلاء هم جسم الثورة الكبير الذي وُلدت من رحمه الثورة المسلحة، هؤلاء الذين حملوا العبء الأول هم أنفسهم الذين سيحملون العبء الأخير.
يا أيها الأحرار الشرفاء، يا ثوار سوريا العظماء: أنتم أوقدتم نار الثورة، وأنتم أبقيتم تلك النار متّقدة من بعد، فما كان لها أن تبقى كذلك -بعد فضل الله وأمر الله- لولا صمودكم الأسطوري وصبركم العجيب. ليس أمامكم إلا أن تكملوا الطريق، فإنكم إن استسلمتم ضعتم وضاعت الثورة، وضاعت معها سوريا وضاع الأولاد والأحفاد وحفدةُ الأحفاد.
إن نظام الاحتلال الأسدي الطائفي هو أوحش الأنظمة الحاكمة في الزمان الأخير وأشدها في القسوة والإجرام، وقد أعييتموه وغالبتموه فغلبتموه. أقسم إنكم أعييتموه وغلبتموه، فإنه قاتلكم بأجهزة الأمن البطّاشة فلم يخرج بطائل، فأطلق عليكم الجيش فلم يصنع شيئاً، ثم أخرج من ترسانته العسكرية الأسلحةَ الثقيلةَ سلاحاً بعد سلاح، حتى فنيت أسلحته ولم يَفْنَ صبركم، ومضيتم في طريق الحرية غير عابئين بالخسائر والتضحيات.
نعم، لقد فشل هذا النظام في هزيمتكم يا أيها الأبطال وإنكم قد أعييتموه وغلبتموه، فلن يغلبكم غيرُه بعدَه إن شاء الله، لأنه ليس على الأرض عدو أشرس منه وأوحش، فلا تستهينوا بأنفسكم، ولا تهنوا لعدو من بعده. لا تسمحوا لأحد أن يفرض عليكم ما لا تريدون، ولا تقبلوا في ثورتكم بأنصاف الحلول، ولا تقفوا الثورةَ وفي النظام القديم عرق ينبض. أعلنوها صارخة مدوية: لا تعايش مع النظام القديم ولا مع جزء من النظام القديم، فإن الحرية ونظام الاحتلال نقيضان لا يجتمعان إلا لو اجتمع الليل والنهار واجتمعت الماء مع النار.
* * *
الخلاصة وكلمة الختام: إن المؤامرة كبيرةٌ كبيرة، وإن الثورة لم تمرّ في خطر كالذي تمر اليومَ فيه، وإن العالم قد اتحد ضدها أخيراً جَهاراً بعدما أمضى الشهورَ الطوال يكيد لها في الخفاء، وإن الرهان الحقيقي ليس على أهل السياسة ولا على أهل السلاح، فإن السياسيين يمكن أن يُخدَعوا أو يُشتَروا بالمناصب والأموال، وإن العسكريين يمكن أن يُقاتَلوا بالسلاح فيغلبهم السلاح. الرهان الحقيقي عليكم يا أيها الشرفاء، يا جمهور الثورة العظيم، فإن الشعوب لا تُغلَب، وإنكم قد أيِسَ النظام المجرم من هزيمتكم وفشل في كسر إرادتكم في ستة وعشرين شهراً، فلا غالبَ لكم بعد اليوم إن شاء الله.
يا أيها الشرفاء، يا جمهور الثورة العظيم: إنكم أنتم الأمل الأخير -بعد الله- وعليكم الرهان الكبير، فلا تخذلوا الثورة ولا تخذلوا سوريا، ولا تخذلوا أنفسكم والأجيال الآتيات.