اللون الأبيض هو رمز للطهارة والنقاء والعفاف وحسن السيرة، ومن هنا قولنا صاحب الأيادي البيضاء وصاحب الوجه الأبيض. وفي الآخرة (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). ويوصف شيء بأنه ناصع البياض للدلالة على جماله. وقد يرمز اللون الأبيض إلى الصمت والسكون الذي يترافق مع الحزن وكظم الغيظ، فيعقوب عليه السلام بعد فقده لولديه وصفه القرآن الكريم (وَتَوَلَّى? عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى? عَلَى? يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).
ربما كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى تسمية بلدة البيضا بهذا الاسم، وهي بلدة جنوب مدينة بانياس السورية الساحلية الواقعة بين اللاذقية وطرطوس.
هذه البلدة تعرضت لمجازر خلال الأيام السابقة جعلت مجزرة دير ياسين الشهيرة التي قام بها اليهود في فلسطين شيئاً لا يُذكر. لقد انقلب لونها إلى الأحمر القاني مما نزف من ذبح رجالها وأطفالها وانتهاك أعراض نسائها بعد أن كانت بلدة آمنة، حيث قام جنود النظام والشبيحة بأعمال يندى لها الجبين كان ضحاياها مدنيون، منهم أسر بأكملها. ثم امتدت المجازر إلى بانياس نفسها والبلدات الأخرى التابعة لها.
وسمعنا أصواتاً تندد بالمجازر وأعمال القتل، وتطالب بمحاسبة المسؤولين عن انتهاكات القانون وحقوق الإنسان، لكن بقي هذا كله كلاماً في الهواء وترطيباً للأجواء لا غير، وكأن الخطوط الحمراء التي خطتها الدول الكبرى خطوط وهمية، فقد تم تجاوزها كلها دون أن يتحرك في قلوبهم شيء. لقد وصفوا المجازر بأنها جريمةُ حرب، وطالبوا بإحالة المسؤولين عنها إلى القضاء الجنائي الدولي، واتهموا النظام بمواصلة سياسة الأرض المحروقة، عبر الدفع بشكل واضح إلى المواجهة بين الطوائف. كما قالوا عنها إنها عمليات تطهير عرقي، وإبادة جماعية بحق المدنيين بقصد تهجير السكان لإحلال غيرهم محلهم, لكن كل هذا كلام دون أي أثر على الأرض سوى فرار مئات الأسر من مدينة بانياس والبلدات التابعة لها خوفا من اندلاع المزيد من أعمال العنف الطائفية، بعد مقتل وذبح المئات بأيدي مجرمي الحرب. نعم! يحدث هذا في سوريا، البلد النموذجي للعيش المشترك بين الأديان والحضارات منذ الفتح الإسلامي.
لقد سبق ولحق هذه المجازر مجازر في (القصير) و(جديدة الفضل)، عدا عن المجازر التي حصلت من قبل في مختلف المدن الأخرى. فهل هي انتقام من الشعب الذي ثار على الظلم والاضطهاد مطالباً بالحرية والكرامة؟ أم إنها علامة على السقوط الوشيك؟ أم تخطيط لحرب طائفية؟ أم مزيج من كل هذا؟.
كيف يمكن الأخذ على يدَي الظالم المجرم لوقف هذه الإبادة الممنهَجَة، بالذبح تارة، وبالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً تارة أخرى؟ وكيف يمكن ثني عزم الدول والقوى الحليفة للنظام لإيقافها عن دعمه؟
هناك من يخاف على حقوق الأقليات إذا انهار النظام! فهل هذا مبرر للوقوف مع المتفرجين الذين يرقبون ذبح الأكثرية؟
لله درُّك يا نزار القباني، كيف وصفت لنا الوضع قبل موتك بسنوات عندما قلت:
يا شامُ، إنَّ جراحي لا ضفافَ لها *** فامسحي عن جبيني الحزنَ والتعبا
أتيتُ من رحمِ الأحزانِ… يا وطني *** أقبّلُ الأرضَ والأبوابَ والشُّهبا
يا ابنَ الوليدِ.. ألا سيفٌ تؤجّرهُ؟ *** فكلُّ أسيافنا قد أصبحت خشبا
دمشقُ، يا كنزَ أحلامي ومروحتي *** أشكو العروبةَ أم أشكو لكِ العربا؟
ماذا سأقرأُ من شعري ومن أدبي؟ *** حوافرُ الخيلِ داست عندنا الأدبا
وحاصرتْنا.. وآذتْنا.. فلا قلمٌ *** قالَ الحقيقةَ إلا اغتيلَ أو صُلبا
يا مَن يعاتبُ مذبوحاً على دمهِ *** ونزفِ شريانهِ، ما أسهلَ العتبا
حبلُ الفجيعةِ ملتفٌّ على عنقي *** من ذا يعاتبُ مشنوقاً إذا اضطربا؟
الوسومالثورة السورية القصير مجزرة البيضا