هذه المقالة ليست من تأليفي، إنما أنا راوٍ أروي ما نسجه التاريخ من أحداث، وما كان للرجال الكبار من آثار في مصائر الشعوب. لا أحكي هذه الحكايات للتسلية وتصريم الوقت، إنما أحكيها لنعلم أن الانتصار في ثورتنا ليس من المستحيلات كما يريد لنا بعض الناس أن نظن، وهو ظنّ مسموم من شأنه أن يدمر النفسيات ويفلّ العزائم، وأن يدعونا إلى الاستسلام والقبول بحل توافقي جائر مع نظام الاحتلال والإجرام.
هذه المقالة تفصيل للفقرة الأخيرة في مقالة الأمس (قائد الثورة الذي نبحث عنه)، كتبتها مفصلة لأنني شعرت أن السوريين الأحرار ينبغي أن يقرؤوا هذا الفصل من كتاب التاريخ، ليعلموا كيف يصنع بعضُ القادة نصراً وكيف يصنع بعضهم هزيمة، وليعلموا أن الشعوب التي تملك الإرادة المخلصة والعزيمة الصادقة لا يمكن أن تُقهَر.
سأروي لكم حكايتين، حكاية علي عزت بيغوفتش الذي غير جغرافية أوربا وحكاية تشرشل الذي غير تاريخها، وأرجو أن لا تملوّا من قراءتهما، فإنهما تحكيان حكاية كل شعب يصر على الحرية والحياة ولا يبالي بالثمن الثمين يدفعه في سبيلهما، ولسوف تصرّون أنتم أيضاً على الحرية والحياة وتقولون: لن نعجز عن صنع ما صنعه غيرنا، فلسنا أقل رجولة ولا أقل بطولة من الآخرين!
1- عندما أعلنت كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما عن يوغوسلافيا الاتحادية في أواسط عام 1991 رأى علي عزت بيغوفتش أن يستغل تلك الفرصة التي قد لا تتكرر في عمر الزمان، فدعا إلى استقلال البوسنة. وحينما اشترط الأوربيون -للاعتراف بأي كيان جديد- موافقةَ أغلبية سكانه على الاستقلال باستفتاء شعبي وجّه الصربُ تهديداً شرساً للمسلمين، فقد كانوا يخططون لضم أراضي البوسنة بكاملها إلى جمهورية صربيا التي ورثت جمهوريةَ يوغسلافيا السابقة. وفعل التهديد فعله فتردد المسلمون وأحجموا عن المشاركة في الاستفتاء، عندئذ خطب علي عزت خطبة مزلزلة أذاعتها المحطات المحلية، ودعا فيها المسلمين إلى التصويت قائلاً: “لقد انتهى إلى الأبد الوقتُ الذي يتقرر فيه مستقبل البوسنة دون إرادة سكانها من المسلمين”.
كانت تلك الخطبة حادثة فاصلة في تاريخ البوسنة. في التاسع والعشرين من شباط 1992 صوّت البرلمان المحلي لصالح الانفصال وإنشاء دولة مستقلة على أرض البوسنة والهرسك، وفي الثالث من آذار أعلن الرئيس علي عزت بيغوفِتْش الاستقلال.
في الشهر التالي اجتاح الجيش الصربي البوسنةَ فبدأت واحدةٌ من أسوأ وأبشع مجازر العصر على عين العالم الذي التزم صمت الأموات فيما كان مئات الآلاف من البشناق المسلمين يبادون إبادة جماعية، ولم يتحرك أحد لوقف الصرب الذين راحوا يكدسون الرجال والصبيان في معسكرات الجوع والموت ويكدسون النساء والصبايا في معسكرات الاغتصاب والعذاب. ثم دخل الكروات في الحرب مع الصرب، وسقط المسلمون بين فكّي كماشة هائلة قاسية، ومع نهاية السنة لم يبقَ في أيديهم سوى خُمس مساحة البلاد، وحاصر الصرب سراييفو تمهيداً لاقتحامها، وبدا لكل المتابعين أن الحلم قد انتهى مبكراً وأن استقلال البوسنة قد دُفن إلى الأبد.
كان علي عزت مع حكومته داخل المدينة المحاصرة، وعرض الصرب عليه الاستسلام، ولكنه رد رداً حاسماً سجله التاريخ: “لا تنازل عن استقلال البوسنة ومنح المسلمين حصتهم العادلة من مساحة البلاد التي يعيشون فيها مع الصرب والكروات”. وقال: “لن نعيش عبيداً. إن النضال من أجل الحرية هدف قائم بذاته، حتى لو لم يتحقق فيه الانتصار. لو استسلمنا فسوف تنتهي البوسنة؛ إنها أمانة في أعناقنا ودَيْن لجيلنا ولكل الأجيال الآتيات”.
رغم أن سراييفو هي عاصمة البوسنة إلا أنها مدينة صغيرة كان يسكنها قبل الحرب نحو نصف مليون شخص، أي أنها بحجم دوما وما يحيط بها من بلدات أو بنصف حجم مدينة حمص، وقد تعرضت لأطول حصار في تاريخ الحروب الحديثة، حصار بلغ طوله قريباً من أربع سنوات (1366 يوماً بالتمام)، وعندما أبت المدينة الاستسلام بدأ الصرب بقصفها من التلال المحيطة بها بالدبابات والمدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ والهاونات والقناصات.
لم يتوقف القصف أبداً طوال أيام الحصار، وخلال تلك السنوات الرهيبة سقطت على المدينة الصغيرة نصفُ مليون قذيفة. بنهاية عام 1995 كانت كل أبنية سراييفو قد أصيبت بصورة جزئية أو كلية؛ قُصفت الأسواق التجارية والمستشفيات والمراكز الإعلامية وشبكات الاتصال والجوامع والمصانع والملاعب الرياضية والأبنية السكنية والحكومية، ودُمّرت المكتبة الوطنية بالكامل ولم يَنجُ أي كتاب من كتبها من الحريق. قُتل الناس وهم في بيوتهم وأسواقهم وقُتلوا وهم مصطفون في طوابير للحصول على الخبز أو على الماء، وبالنتيجة استُشهد نحو عشرين ألفاً من سكان المدينة، أي أنها فقدت واحداً من كل خمسة وعشرين. ولم تستسلم.
لمدة أربع سنوات حوصرت سراييفو حصاراً خانقاً وقُطعت عنها إمدادات الماء والغاز والكهرباء، ومنع الحصار دخول الغذاء والدواء والسلاح، ولكن علي عزّت أصر على الحرية ورفض الاستسلام، ورفض كل العروض لمغادرة سراييفو تحت حماية الأمم المتحدة، فآثر البقاء مع أهل المدينة المحاصَرين، يحتمل الجوع والبرد كما يحتملون ويتعرض للخطر كما يتعرضون، وكان ثباته العجيب مصدراً للقوة والإلهام.
ثم نجح المدافعون عن المدينة المحاصَرة بصنع نفق ربطها بالمطار (وكان تحت سيطرة قوات الأمم المتحدة). لولا ذلك النفق لماتت سراييفو. حُفر النفق بالمعاول اليدوية لعدم وجود آلات حفر في المدينة، واستغرق حفره أربعة أشهر كاملة، وإنّ قصته لَواحدة من ملاحم الصمود التي تسحق أن تروى وأن يُستمَدّ منها الإلهام في ثورة الأحرار على أرض الشام.
التقيت بعد الحرب بواحد من إخواننا العرب كان في سراييفو خلال الحصار الطويل، قال إن الناس قطعوا الشجر وحرقوه ليردّوا بالنار برد الشتاء. وما شتاء سراييفو؟ إن الحرارة تصل فيها إلى خمس عشرة درجة وعشرين درجة مئوية تحت الصفر في شهور الشتاء. قال: ثم نفد الشجر فبدأ الناس يحرقون أثاث بيوتهم، ثم خلعوا أبواب الغرف في البيوت وحرقوها ليستدفئوا بنارها، ثم بدؤوا يحرقون ملابسهم! أقسم الرجل بالله إنهم أحرقوا حتى الملابس… ولم تستسلم سراييفو، وخرجت من أطول حصار في تاريخ الحروب الحديثة منتصرة بفضل الله، ثم بفضل عزيمة الرجل الشجاع الذي رأى النور في آخر النفق الطويل وأبصر -بعين البصيرة- النصرَ في آخر الطريق.
لقد أراد الجميع أن تختفي الدولة الوليدة الجديدة من الوجود؛ أراد ذلك الصربُ والكروات، وأراده الروس والأوربيون والأميركان، ومرّت ألف مناسبة ظن فيها العالم وظن البوسنيون أنفسهم أن حلم الاستقلال تبدد إلى الأبد، ولكن العزيمة الصادقة تغلبت على الهمجية والمجازر والمؤامرات، ونجح الرجل الأعجوبة، “العملاق في عالم الأقزام” كما وصفه الأستاذ الفاضل نبيل شبيب في مقالة كتبها في تأبينه، نجح الرجل الأعجوبة في تحقيق المستحيل. لقد أراد أن يتجنب الحربَ بأي وسيلة ممكنة، ولكنه لمّا رآها فُرضت عليه وعلى شعبه، ولمّا رأى أنه بات مخيّراً بين نار الحرب وذل الاستسلام، آثر حَرّ النار على ذل الانكسار واختار الطريق الصعب الطويل إلى الحرية والكرامة والاستقلال.
2- اجتاحت الجيوش الألمانية بولندا في الأول من أيلول عام 1939، ثم احتلت النرويج والدنمرك ودول البلقان ودول أوربا الشرقية، وأخيراً غزت بلجيكا وهولندا ودخلت منها إلى فرنسا عبر الآردن، ملتفة من وراء خط ماجينو الشهير، وفي الثاني والعشرين من حزيران 1940 استسلمت فرنسا، وبقيت بريطانيا الخصم الأخير.
عندما بدأت الحرب العالمية كان رئيس الوزراء البريطاني هو اللورد تشمبرلين، وهو رجل متردد مهادن اتّبع مع ألمانيا سياسة السلام والتملّق حينما كان هتلر يُعدّ الجيوش ويكدس السلاح، وقد كان هو الراعي لمعاهدة ميونيخ التي فصلت عن تشيكوسلوفاكيا إقليم السوديت -في أيلول عام 1938- ومنحته لألمانيا في محاولة لاسترضاء ألمانيا وكبح عدوانيتها، وعندما اجتاح الألمان بولندا بعدها بسنة لم يصنع شيئاً يذكر، وأخيراً فقد ثقة مجلس العموم عندما فشلت سياسته الرخوة في إنقاذ النرويج والدنمرك فسقطتا بيد الألمان في نيسان 1940، وعندما اجتاحت الجيوش الألمانية بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ في العاشر من أيار استقال تشمبرلين، وكلف الملك تشرشل برئاسة الوزارة الجديدة.
لقد سقطت أوربا كلها -تقريباً- تحت الاحتلال النازي الألماني ولم يبقَ للألمان خصم سوى بريطانيا، وبات جزء كبير من المزاج السياسي والشعبي البريطاني يميل إلى التفاوض مع الألمان للوصول إلى هدنة، وكان من داعمي ذلك الرأي وزير الخارجية اللورد هاليفاكس. ولكن تشرشل قطع الطريق على كل الأفكار السلبية والانهزامية والاستسلامية، وكان أول تصريح علني له فور تكليفه برئاسة الوزارة هو رفض أي مفاوضات مع الألمان.
لم تملك بريطانيا أي قوة حقيقية في ذلك الوقت، فعندما سقطت فرنسا انسحب منها ربع مليون جندي بريطاني وعادوا إلى الجزيرة البريطانية، ولكنهم لم يعيدوا معهم سوى تسع دبابات من أصل ستمئة واثني عشر مدفعاً من أصل ألف. كان كل ما تملكه بريطانيا حينها نحو مئتين وستين دبابة، ويكاد المؤرخون يُجمعون اليوم على أن ألمانيا كانت ستفتك ببريطانيا في أيام معدودات لو أن الجيوش الألمانية الجبارة عبرت المانش من جهة كاليه على البرّ الفرنسي!
ومع ذلك رفض تشرشل عرض الهدنة مع ألمانيا، وفي أول خطبة خطبها خاطب الشعب البريطاني قائلاً: “ليس لديّ ما أقدمه لكم سوى البؤس والعرق والدموع والدماء، ولكني أعدكم بالنصر”. وفي خطابه الثاني قال: “سنحارب في الجو بالطيارات، سنحارب في البحار بالغواصات، سنحارب على الشواطئ والهضاب والميادين والطرقات، لن نستسلم أبداً، سندافع عن أرضنا مهما يكن الثمن ومهما تبلغ التضحيات”.
لقد سَرَت كلماته في الأمة كالكهرباء وأيقظت الهمم وساعدت الناس على الصمود. وقرر هتلر أن يكسر إرادة الشعب البريطاني فأطلق على المدن البريطانية عملية “البرق” (بليتْز) فانطلقت الطائرات النازية من البر الأوربي لقصف لندن وكبرى المدن البريطانية، واستمر القصف لمدة ثمانية أشهر مخلّفاً أكثر من أربعين ألف قتيل بين المدنيين، وزاد عدد الجرحى والمصابين على مئة وأربعين ألفاً، وأصاب الدمار الكلي أو الجزئي نحو مليون منزل من منازل المدنيين. ولكن الناس صبروا وصمدوا فلم يفكر أحد في التراجع والاستسلام، وحتى عندما كاد الناس يميلون إلى التراخي -بعد الانتصار الحاسم الذي حققه الجيش البريطاني في العلمين أواخر عام 1942- خاطب تشرشل البريطانيين قائلاً: “لا تعجلوا بالاحتفال، فما يزال الطريق إلى النصر طويلاً مليئاً بالألم والمعاناة والتضحيات. إن هذه ليست النهاية، بل إنها ليست بداية النهاية، إنها فقط نهاية البداية”.
لم يحاول تشرشل أبداً أن يخدع شعبه. لقد أدرك صعوبة الطريق ولكنه رأى الضوء في آخر النفق المظلم الطويل، وساعد شعبه على رؤية ما يرى وعلى الاستبشار بيوم سيأتي في الانتصار.
يقول أحد مؤرخي الحرب العالمية الثانية: “من المؤكد أن بريطانيا كانت ستخسر الحرب لولا تشرشل”، ويقول مؤرخو حرب البوسنة: “لولا الرئيس علي عزت بيغوفتش لاختفت البوسنة من الوجود”. وأنا أقول: ما أحوجَ سوريا إلى رجل يشبه أولئك الرجال، رجل يؤمن بأن التصالح والتعايش مع العدو مستحيل، ويؤمن بقدرة شعبه على الصبر والصمود وصولاً إلى الانتصار. فإن من قال “هلك الناس” أهلك الناس، ومن قال “عجزوا عن الاحتمال” أعجزهم عن الاحتمال!
ثم أقول: إن الشعب السوري يولد اليوم من جديد، ولم تكن ولادةٌ قَطّ بلا ألم. إنكم -يا شعب سوريا العظيم- أعجوبة في الشعوب. لقد حققتم المستحيل وأنجزتم أعظم المعجزات بصمودكم الأسطوري إلى اليوم، ليس في وجه آلة الإجرام الأسدية الطائفية فحسب، بل في وجه دولة عاتية عجزت عن وقف مشروعها دولٌ وحكومات. إن ثورتكم لهي الأعجوبة في الثورات، أقسم بالله إنها أعجوبة الثورات في كل الأزمنة والأوقات، فامضوا واثبتوا ولا تهنوا ولا تحزنوا، وإنكم بإذن الله لمنصورون.