يظن بعض الناس أن المدن والمناطق المحتلة (التي ما زالت خاضعة لسلطة الاحتلال الأسدي) أنها خاملة لا ثورةَ فيها ولا عمل. وهم معذورون لأنهم ينظرون إلى السطح فلا يرون أي نشاط، ولكنْ مَن يستطيع أن يرى عالم النمل العجيب الذي يضجّ بالحركة والحياة إذا نظر إلى سطح يغطيه التراب؟ ليس النشاط الثوري في المناطق المحتلة أقل نشاطاً وضجة بالحياة من مستعمرات النمل، ولكن أصحابه اضطروا إلى العمل في الخفاء لأن العدو سيفتك بهم لو كشفوا أنفسهم وتحركوا تحت الشمس.
خلال السنة الأخيرة تشرفت بالارتباط ببعض المجموعات الفسبوكية المغلقة التي تضم ناشطين وناشطات من شباب وصبايا الثورة في الداخل، وأدركت من خلال متابعتي لتلك المجموعات مقدار الجهد العظيم الذي يقومون ويقمنَ به، والذي كان له -من جهة- أثر كبير في صمود المناطق المحررة القريبة التي يفرض النظام عليها الحصار، وفي استمرار الروح الثورية وانتشارها في المناطق المحتلة ذاتها من جهة أخرى.
أولئك هم فدائيو الثورة وجنودها الأخفياء، وهم يعيشون في فم الأسد وعلى شفا فُوّهة البركان، فإنهم إذا أمسَوا في بيوتهم لا يأمنون أن يصبحوا فيها، وإذا أصبحوا فيها لا يضمنون الحرية والسلامة حتى المساء. كم من شاب منهم أو شابة تعرضوا للاعتقال، وكم منهم من استُشهد تحت التعذيب. نعم، في كل يوم يُستشهَد في القصف العشوائي والمذابح الطائفية مئة أو مئات، وفي كل يوم يرتقي من المجاهدين عدد من الشهداء، ولكن أولئك الناشطين الذين يستشهدون تحت التعذيب هم سادة الشهداء، لأنهم قذفوا بأنفسهم في عين الخطر وهم يدركون ما ينتظر الواحدَ منهم إذا سقط في يد العدو، وغيرُهم من شهداء القصف فَرّ بنفسه فلحقه الموت إلى دار الفرار، ولأنهم دخلوا إلى المعركة عُزْلاً وغيرهم من شهداء الجهاد واجهوا العدو بالسلاح. رحم الله الجميع.
كلما قرأت -وأنا أتابع أخبار المجموعات- أن واحداً من أولئك الأبطال اعتُقل أو استشهد تحت التعذيب غشيني حزن كبير وكأني فقدت أخاً عرفته من سنين، مع أني لا أعرفهم بالصور ولا بالأسماء، فإنهم يتخفّون بأسماء مبهَمة فلا يُعرَف الواحد منهم ولا يُكشَف اسمه إلا بعد الاستشهاد. إنني أفتقد كل من يمضي منهم على الطريق وأحس في نفسي بألم الفَقْد ومرارة الفراق، فكيف برفاق الدرب وإخوة الجهاد؟ لا بد أنهم أشد تعرضاً للكُرَب والأحزان، فضلاً عن القلق الذي ما يزال يلحّ على نفوسهم من خطر التعرض إلى ذات المصير.
أولئك إخوانكم وأخواتكم البرَرة الأخفياء الذين لم تعرفوهم بأسمائهم، لا تنسوهم من الدعاء، وشاركوهم بالتعزية والتشجيع. انشروا كلمات تخاطبونهم فيها فتشدّون على أياديهم وتُشعرونهم بأنكم تعلمون ما يعملون وأنكم لعملهم مقدّرون وشاكرون. عزّوهم وشجعوهم، فلا بد أن تصل كلماتكم إليهم أو إلى بعضهم حتى لو لم تعرفوا عناوينهم، فإنهم كثيرون وكثيرات، وإنهم يعيشون في قلق لا ينقطع وإنهم يفقدون في كل يوم أخاً من إخوة الجهاد وشريكاً من شركاء الطريق.