1- يعلم كل مسلم ما للصبر من فضائل وما أعده الله للصابرين من الأجر العظيم، وإن المؤمن لَيُصاب بأعظم مصيبة في الدنيا ثم يقرأ آيةً في كتاب الله فينسى مصيبته ويحمد عليها الله، هي قوله تبارك وتعالى: {إنما يُوفّى الصابرون أجرَهم بغير حساب}. بغير حساب يا أيها المؤمنون، بلا حدود يا أيها المبتلَون الصابرون! يُعطَى المُبتلَى الصابر من الأجر حتى يرضى، فهل بعد هذا العزاء في المصيبة من عزاء، وهل بعد هذا الجزاء عليها من جزاء؟ والله الذي لا إله إلا هو إن أهل العافية ليَحسدون أهل البلاء يوم القيامة من كثرة تكريم الله لهم، وإن الواحد منهم ليقول: يا ليتني أصابني ما أصاب إخواني من المصائب وصبرت عليها لأكسب من الأجر مثل الذي يكسبون!
هذا كله يعرفه المؤمنون ولا يحتاجون إلى مثلي ليذكّرهم به، وليس هو ما أردت الحديث عنه، إنما أردت أن أضيف إلى هذه الفائدة العظيمة من فوائد الصبر -وهي الفوز العظيم في الآخرة- فائدة عظيمة أخرى، هي النصر في الدنيا. إنها سُنّة من سنن الخلق وقاعدة من قواعد الصراع بين الحق والباطل، سنّة وقاعدة تقول: “النصر ثمرة الصبر”، وإن شئتم: “الصبر مفتاح النصر”. تقولون: وأين وجدت هذا؟ أقول: في كتاب الله الكريم، وصدق الله العظيم.
2- حينما دعا نبي الله -عليه سلام الله- قومَه في مكة إلى الإسلام عادَوه وآذَوه وكذّبوه وحاربوه هو والذين آمنوا معه. لم يحاربوه يوماً ويومين أو شهراً وشهرين، ولا حاربوه عاماً ولا عامين، بل استمروا في حربه وتكذيبه أعواماً طويلة، عشرَ سنين، فهل يُلام لو أنه يئس منهم وترك دعوتهم وأعرض عنهم وقال: إلى متى أدعوهم فلا يزدادون إلا عتواً وتكذيباً؟
إن الأنبياء هم صفوة خلق الله على التحقيق، ولكنهم بشر تنتابهم المشاعر الإنسانية التي تنتاب سائر الناس، ويمكن أن يصيبهم اليأس الذي يصيب كل الناس. لذلك تابع الله نبيه الكريم وما زال يأمره بالصبر ويحثّه عليه مرة بعد مرة خلال تلك السنوات العصيبة: {فاصبر صبراً جميلاً}، {فاصبر إن وعد الله حق}، {فاصبر على ما يقولون}، {واصبر حتى يحكم الله}، {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت}، {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}… إلى آخر تلك الآيات، وهي كثيرة جداً في كتاب الله.
ثم برّر ربنا -جلّ وتبارك- أمرَه لنبيه الكريم بالصبر وقرّر القاعدةَ التي تربط النصر بالصبر فقال: {ولقد كُذّبت رسلٌ من قبلك، فصبروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا}، فإنهم صبروا فنُصروا. ثم جاءت تتمة الآية لتؤكد تلك القاعدة وتقررها سنّةً من سنن الدنيا الدائمة: {ولا مُبدّلَ لكلمات الله}، فإنها سنة باقية في الوجود إلى آخر الزمان.
3- صبر النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- فانتصر؛ أظهر الله دعوته ومكّن له في الأرض، فهاجر إلى يثرب وأنشأ فيها أول كيان حر مستقل للجماعة المسلمة. ولكن الباطل لا يسكت ولا يرضى بالهزيمة، بل إنه يزداد شراسة كلما تقدم الحق خطوة إلى الأمام. لقد تخلص المسلمون من الاضطهاد والاستعباد، ولكن الطريق ما يزال طويلاً إلى النصر الأخير الكبير، وسوف يخوضون صراعاً مريراً يحتاجون فيه إلى كثير من الصبر، بل إن الصبر سيكون هو الشرط لتحقيق النصر الموعود كما يعلّمهم رب العالمين: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلموا لنبوّئنهم في الدنيا حسنة}. قال بعض أهل العلم: الحسنة في الدنيا هي النصر على عدوهم. ولكن بأي صفة ينالون تلك الحسنة؟ اقرؤوا تتمة الآية: {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}.
ثم كانت معارك المسلمين الكبرى وصراعهم الطويل مع المشركين، ومرة أخرى كان الصبر فيها هو عدة النصر: {يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين}، فربط الغلبة بالصبر لا بالعدد. ثم قال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين}. حتى بعد التخفيف بقي الصبر هو الشرط: مئة “صابرة”، وتكرر تأكيده في الخاتمة أيضاً: والله مع “الصابرين”.
ثم كان الصبر هو شرط النصر في صراعهم الخفي مع المنافقين: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً}، وفي معاركهم الظاهرة مع المشركين: {بلى، إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين}.
4- كان لا بد من درس كبير يقدمه القرآن للجماعة المسلمة، درس يؤكد القاعدة الربانية في ارتباط الصبر بالنصر، فروى لهم تلك القصة العظيمة المليئة بالدروس والعبر، قصة طالوت وجالوت. لن أسرد القصة من أولها فإنكم تعرفونها. لننتقل فوراً إلى المشهد قبل الأخير، بعد الاختبار الصعب الذي فرز الجيشَ فريقين حجز النهرُ بينهما، فمضى الناجحون وتخلّف الراسبون.
{فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقةَ لنا اليوم بجالوت وجنوده}. مَن الذين قالوا تلك المقولة؟ الذين فشلوا في الاختبار؟ أولئك لم يكملوا الطريق (على أفضل قولَي أهل التفسير): {فمن شرب منه فليس مني}. لقد قالتها طائفة من الذين نجحوا في الاختبار، وهم من المؤمنين الصادقين: “الذين آمنوا معه”. هنا جاء دور الطائفة الأخرى من المؤمنين، الطائفة التي امتلك أصحابها البصيرة واليقين: {قال الذين يظنّون أنهم مُلاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين}. هل لاحظتم الشرط الذي يستحق أصحابُه نصرَ الله؟ “والله مع الصابرين”.
لقد كانوا مؤمنين وكانوا أصحاب بصيرة ويقين، نعم، ولكنهم ليسوا إلا بشراً يصيبهم ما يصيب البشر من خوف وتردد. فلما واجهوا جيش جالوت الرهيب هالهم ما رأوه من قوته وكثرته وضعفهم وقلّتهم، ولكنهم تذكروا أن الصبر هو مفتاح النصر. لم ينسوا تلك القاعدة الكبرى، فلم يطلبوا من الله أن يمدهم بمدد من الرجال أو السلاح ولا بمدد من الملائكة، إنما طلبوا منه أن يمدهم بالصبر والثبات: {ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين} فأجابهم الله إلى ما طلبوا، وكانت العاقبة لهم بأمر الله: {فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت}.
5- سوف يقرأ هذه المقالةَ جماعةٌ من أهلنا في سوريا فيقولون: ما أسهل التنظير! أتطلب منا أن نصبر ونحن نُصبح كل يوم ونُمسي على الموت والدمار؟ لقد جلبَت علينا هذه الثورةُ من البلاء أكثر من الذي كان فينا قبلها، ولقد نفد الصبر وأوشكنا أن نقبل بأي حل، ولو كان أقرب إلى الاستسلام، ولو سمح ببقاء النظام!
أقول لهم: أعيذكم بالله أن ترددوا مقالة بني إسرائيل لموسى عليه السلام لمّا أمرهم بالصبر على أذى فرعون وعذابه: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده}، فماذا قالوا؟ {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا}! فجاء ردّه الحاسم الذي يرى نتيجة الصبر بعين اليقين: {قال عسى ربكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفَكم في الأرض فينظرَ كيف تعملون}. ثم كانت العاقبة للصابرين فأهلك الله عدوهم ونصرهم ومكّنهم في الأرض: {فانتقمنا منهم} أي من فرعون وملئه {فأغرقناهم في اليم}. وماذا عن المؤمنين الصابرين من قوم موسى؟ {وأورثنا القومَ الذين كانوا يُستضَعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا}. أرأيتم بأي شيء تمت نعمة الله عليهم؟ {بما صبروا}. وصدق الله العظيم: {لا تبديل لكلمات الله}.
6- من أعظم صفات المؤمنين التي جمعتها أصغر سورة من سور القرآن أنهم يتواصَون بالحق ويتواصون بالصبر. ولماذا قرن الله هذا بذاك؟ لأن الحق يحتاج إلى ثبات عليه وإلى تضحية من أجله، ولا يكون هذا إلا بالصبر. فإذا لم يصبر الناس على حقهم ولم يضحّوا في سبيله ضاع وأكله الباطل، وإذا صبروا وثبتوا عليه ظهر على أيديهم ونصرهم الله، وهاتان هما الصورتان اللتان رأيناهما في الشام بين الأمس واليوم.
لقد سكت السوريون ورضوا بالباطل زمناً طويلاً، رضوا بحياة العبيد واستكانوا للمستبدين الجائرين فتركهم الله ولم يتدخل لرفع الغمّة عنهم، ولو أنهم لبثوا كذلك ألف عام لتركهم ألف عام، فإن الله لا ينصر القاعدين، وإن مما قرره الله وسَنّه في الوجود أنه لا يغيّر ما بقوم -من شر وسوء حال- حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن أول شرط لبلوغ النصر هو معرفة الحق والالتزام به والتضحية في سبيله، ثم الثبات والصبر عليه حتى النصر.
ثم استيقظ السورين من السبات وهَبّوا هبة الأسود وثاروا على الظلم ودفعوا ثمن التغيير أنفساً كريمة ودماء زكية، وطالت المحنة واشتد البلاء فصبروا وشكروا، واستعانوا بالله حق الاستعانة وتوكلوا عليه حق التوكل، فثبّت الله أقدامهم وحقق على أياديهم أعاجيب المعجزات، فإنهم -على ضعفهم وقلّة ناصرهم- ينتقلون من نصر إلى نصر، وإن عدوهم -على جبروته وكثرة ناصريه- ينتقل من هزيمة إلى هزيمة، وفي يوم آت يعلمه الله (وأسأله أن يكون غيرَ بعيد) سيصل النظام إلى الهزيمة الكاملة ويصلون هم إلى النصر الكبير الأخير بإذن الله رب العالمين.
يا أهل الإيمان، يا أهل الشام: لقد علمتم أن ثورتكم حق وأن النظام باطل، ولقد صبرتم على حقكم الصبرَ الطويل وتوكلتم على الله واستعنتم به، وعلمتم أنه لا ناصرَ إلا هو وأنه ليس لكم سواه، فإنكم جديرون بنصر الله، وإنكم تستحقون الحرية والحياة الكريمة بأمر الله، فما عليكم إلا أن تصبروا على ما بقي كما صبرتم على ما مضى، والعاقبة للمتقين الصابرين بإذن الله رب العالمين: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين}، {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون}.