1- الذين استهانوا بدعوة علماء الأمة إلى الجهاد أو شكّكوا في استقلال مؤتمرهم وموقفهم لم يَقْدِروا هذا الأمر الخطير الكبير حق قَدْره.
الأصل في الجهاد أنه قرار مصيري يصدر عن رأس الأمة وأعلى سلطة فيها، ولكن الأمة فقدت قيادتها السياسية الحقيقية منذ أن بدأت الدولة العثمانية بالضعف والانهيار، ولم تسترجعها حتى اليوم، فكانت آخر دعوة عامة إلى الجهاد هي دعوة السلطان محمود الثاني سنة 1225هـ (1810) عندما أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية (وأرجو أن يستدرك عليّ أخي الدكتور راغب السرجاني إن كنت مخطئاً). بعد ذلك دُعيَت الأمة إلى الجهاد مرة واحدة، ثم لم تُدْعَ قط. كان ذلك عندما أدخل الاتحاديون الدولةَ في الحرب العالمية ودفعوا السلطان محمد الخامس إلى إعلان الجهاد ضد الحلفاء، ولكن تلك الدعوة لم تكن ذات معنى لأن كل بلدان العالم الإسلامي كانت تحت الاحتلال الأوربي في ذلك الحين.
منذ ذلك اليوم لم تُدعَ الأمة دعوة عامة إلى الجهاد، حتى عندما سقطت فلسطين وضاعت القدس! نعم، أفتى علماء كثيرون بوجوب الجهاد عندئذ، في القارة الهندية وفي غيرها، ولكنها كانت دعوات متفرقة لا جامعَ لها، أو أنها كانت محدودة بحدودها الجغرافية الضيقة ولم تشمل الأمة كلها، كما حصل قبلها عندما سقطت الجزائر وتونس ومصر وبلاد الشام وجاوة والملايا وتركستان وغيرها من بلاد الإسلام.
لقد ضاعت بلاد المسلمين بلداً بعد بلد ولم تنفر الأمة إلى الجهاد، ثم تحررت تلك البلدان في الظاهر وبقيت رهناً للمستعمر الأجنبي في الباطن، وغدا قادتها دُمَى يحركها اللاعبون الكبار، وأُريدَ لهذه الفريضة العظيمة أن تُنسَى ولهذا الركن الركين من أركان الإسلام أن يموت، وسكت علماء الأمة دهراً فكرسوا ذلك الواقع المر الأليم، ثم وقع الزلزال. ارتجَّتْ أرض الشام بثورة الأحرار، فما زال رَجْعُ الهزّة يمتد ويتعاظم حتى بلغ أدنى أرض الإسلام وأقصاها، فاستيقظ النائمون وقام القاعدون وهتف الساكتون، واسترجع علماء الأمة أخيراً دورَهم المفقود، فتصدروا للقيادة بعدما عجزت قيادات الأمة السياسية وخيبت الآمال، ووقفوا الموقف الذي كان ينبغي أن يقفوه منذ سنين، وأعلنوا الجهاد.
لعلماء الأمة البررة الصادقين شكرنا ودعاؤنا المخلص، ونقول لهم: لن نسامحكم إذا سكتّم بعد اليوم مع الساكتين، ولن ننتظركم إذا قعدتم مع القاعدين، فإن الأمة عرفت الطريق ولن تضل عنه بعد اليوم بإذن المولى الكريم.
2- لمّا رأى بعض الناس أن دعوة علماء الأمة إلى الجهاد اتفقت في التوقيت مع الموقف الأميركي الجديد افترضوا أن بين الأمرين رابطاً خفياً، وقالوا إن العلماء لم يتحركوا إلا بموافقة وإيعاز من حكومات دولهم التي تتحرك ضمن المحدّدات والضوابط الغربية والأميركية.
أنا أحب التفكير النقدي وأعتبر أن تحرير العقول كان واحداً من مزايا ثورات الربيع العربي، فقد تعاظم الوعي وتوقف الناس عن الاتّباع الأعمى والتسليم المطلَق، ولكن النقد البنّاء يتحول إلى رفض عشوائي ما لم تضبطه ضوابط من التدقيق والتفكير المنطقي، فإذا طبقنا تلك الضوابط على موقف علماء الأمة الأخير فماذا نجد؟
أنا لا أعرف كل المشاركين في المؤتمر ولكني أعرف منهم كثيرين، وقد نظرت فلم أجد أحداً منهم من علماء السلاطين الذين يُملَى عليهم ما يقولون وما لا يقولون، بل وجدت ثلة من العلماء الأحرار الأخيار الذين عرفنا لهم سوابق في الفضل والجهر بالحق في مواطنَ ضَعُفَ فيها عن الجهر بالحق غيرُهم. ثم وجدت مزيداً من الاطمئنان في الجهة الداعية وفي مكان عقد المؤتمر، فغلب على ظني -إلى درجة قريبة من اليقين- أن هذا المؤتمر بعيد عن الإملاء والسيطرة، وأنه مشروع مخلص قامت به فئة صادقة صالحة من علماء الأمة المعتبَرين.
ثم إن هذا المؤتمر لم يولد فجأة، بل سبقته إرهاصات وإشارات، بعضها جاء من علماء السنّة الأوفياء في لبنان، وبعضها من علماء الكويت ذوي الرجولة والشهامة، ثم من علماء السعودية الذين وقفوا مع الثورة السورية بنبل ومروءة منذ أيامها المبكرة. وإن الناظر في الساحة الإسلامية خلال الأسابيع الأخيرة ليرى سطحاً يغلي ويفور وينذر بالانفجار، فثَمّ كان المؤتمر هو الانفجار وهو التعبير الحقيقي عن إرادة الأمة وعن موقف علمائها الكبار.
ثم إن الإدارة الأميركية لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد ضغط شديد من عدد كبير من الشيوخ والنواب، وبعد نقد قاس لموقف الرئيس شارك فيه كثير من الأكاديميين والسياسيين، بما فيهم الرئيس السابق بيل كلنتون. ومع ذلك فإن موقف أوباما كان مجرد استجابة باهتة لتلك الضغوط ولم يقدم شيئاً حقيقياً من شأنه أن يغير الواقع الميداني، فقد لاحظ معلق جريدة نيويورك تايمز، بيتر بيكر، أن الرئيس دُفع دَفعاً إلى ذلك الموقف ولم يحمله على محمل الجِدّ الكامل، حتى إنه ترك إعلانه لمستشار الأمن القومي بنيامين رودس، فيما كان هو نفسه مشغولاً بمخاطبة اجتماع للشواذ في غرفة أخرى في البيت الأبيض! وهو يقول أيضاً: “إن أوباما لا يريد أبداً أن يحسم الصراع العسكري، إنه يريد فقط أن يطوّله بدرجة تكفي لتحقيق تسوية سياسية على أساس مفاوضات بين الطرفين”. هذا ما تريده أميركا، فاعقلوا يا أيها الناس ولا تضعوا فيها ذرة من أمل!
3- مع كل الشكر والتقدير لعلمائنا الكرام ولدعوتهم الصريحة الشاملة إلى الجهاد، إلا أنني كنت أفضّل أن يستنفروا الأمة إلى الجهاد بالمال وأن يسعوا إلى مدّنا بالسلاح وبكل أنواع الإغاثة الطبية والإنسانية، وأن يستثنوا الجهاد بالرجال (ما عدا الخبراء العسكريين والأطباء والمسعفين) لأن في سوريا مليون مجاهد تطوعوا للقتال ووقفوا في صفوف طويلة ينتظرون مَن يجهّزهم بالسلاح، فمَن رآهم قال: كأنما فيهم نزل قوله تبارك وتعالى: {ولا على الذين إذا ما أتَوْكَ لتحملهم قلتَ لا أجد ما أحملكم عليه تولَّوا وأعينُهم تَفيضُ من الدّمع حَزَناً ألاّ يجدوا ما يُنفقون}.
إن سوريا اليوم تشبه عمارة شَبَّتْ فيها النار، فاندفع عدد من شبّانها لإطفاء النار وإنقاذ العجزة والنساء والأطفال. إن النخوة والشهامة ستحملان شبّان الحي كلهم على المساعدة، ولكن تخيلوا ماذا يكون الحال لو أنهم اندفعوا كلهم إلى العمارة المحترقة للمساعدة في الإنقاذ. سوف يختلط الداخلون بالخارجين وتزدحم الممرات ويصطدم الناس بعضهم ببعض على الأدراج وينحشر بعضهم على الأبواب، وبالنتيجة سيختلط الحابل بالنابل ويتحول الإنقاذ إلى مأساة.
خيرٌ من هذا أن يترك الجيران لشبّان العمارة مهمّةَ الإنقاذ في داخلها، فإنهم أدرى بتفاصيلها وأعلم بمسالكها ومداخلها ومخارجها، وأن يمدوهم بالمساعدة من خارجها، فيأتوا بسيارات الإطفاء ويمدوا خراطيم الماء، ويوفروا العناية الطبية لمَن لذعتهم النار أو أصابهم الاختناق، وسوف يكون لهم من بعدُ دورٌ -أرجو أن لا ينسوه- في ترميم المبنى وتعويض ساكنيه عمّا فقدوه في الحريق من مال وأثاث.
فيا أيها المسلمون: بارك الله في نياتكم الصادقة وفي نفرتكم المخلصة، ولو أن أحداً منكم أراد الجهاد على أرض الشام فلا يملك أحدٌ من أهل الشام أن يحرمه هذا الشرف العظيم، ولكنْ أسهلُ عليكم وأجدى علينا أن تمدّونا بأسباب النصر، وأن تغزوا بأموالكم لا بأنفسكم، فإن الواحد منكم ليستطيع أن يسد عشر ثغرات لا واحدة لو أنه جهّز عشرة من المجاهدين الغزاة، وله أجرهم جميعاً، فإنّ مَن جهز غازياً فقد غزا (كما في الحديث الصحيح).
إنكم تستطيعون أن تقدموا كل شيء، ونحن بحاجة إلى كل شيء: السلاح بأنواعه كلّها خفيفه ومتوسطه وثقيله، والكثير الكثير من الذخيرة فإن الحرب أكّالة، والكثير الكثير من الدواء فإن المصابين لا يكاد يحصيهم العادّون، والكثير الكثير من الغذاء فإن المشردين ملايين، ولقد اتسعت المحنة وبلغت الحاجة بالناس -كما قلت مرة- أن المرء لو قذف درهماً في الجو فلا بد أن يسقط في يد محتاج!
4- لكنْ ربما جاء يوم قريب تحتاج فيه الشام إلى جيش الأمة الكبير، فإذا استنفرناكم يومَها ودَعَونا الأمة إلى الجهاد على أرض الشام فلا تقولوا: “بدّلتم رأيكم وغيّرتم أقوالكم”، فإن الفتوى على مقتضى الحال، والحال متغيرة يوماً بعد يوم. نحن الآن قادرون على رد ثلاثين ألفاً من عصابات الرافضة الذين اجتمعوا في أرض الشام، ونرجو أن تكون مصارعهم فيها بإذن الله، ولكن ما أدرانا أن تتدفق على الشام جيوش المعتدين بالملايين؟ وما أدرانا أن تتسع هذه الحرب وتطول وأن تكون هي المدخل إلى أحداث آخر الزمان والبوابة إلى الملحمة الكبرى؟ فإذا بدأت الملحمة فهل يُعقل أن يخوضها أهل الشام وحدَهم بلا ظَهير من إخوانهم المسلمين؟
لقد آن الأوان ليفتح كل مسلم كتب الحديث ويقرأ ما ورد في أخبار تلك الملاحم، وليُعِدّ نفسه لاستقبالها فإنها قد تأتي غيرَ بعيد. إن الغيب حق، وما هو آت آت ولو بعد حين، ولقد لبثنا حيناً من الدهر نقرأ تلك الأخبار كما نقرأ قصص الخيال التي لا تكون، ولم نظن أننا نراها في عمرنا أبداً. ولكنْ أليس جيلٌ من المسلمين هو الذي سيعيش غمراتها؟ فلماذا لا يكون هو هذا الجيل الذي يعيش اليوم؟
5- لقد ثارت الشعوب وتقدمت، وتأخر علماؤها حتى كادت تفقد الثقة بهم وتُعرض عن الاستماع إليهم. وها هم أولاء قد ثاروا اليوم كما ثارت الشعوب، وإنها لَخطوة أولى في الاتجاه الصحيح، إنْ لم تتبعها خطوات واسعات ضاع المؤتمر وتبددت الدعوة العظيمة إلى الجهاد، فلا تضيّعوه ولا تبدّدوها يا أيها العلماء، ولا تُسقطوا الراية بعدما رفعتموها في مؤتمركم العظيم.
إن أحرار سوريا ينتظرون السلاح والإغاثة، وكما قال قائلكم: نريد أفعالاً لا نريد مزيداً من الأقوال؛ بعد اليوم لا توصيات ولا بيانات ولا شجب واستنكار، ليس بعد اليوم إلا عمل وجهاد.
وإني لأرجو ويرجو كل مسلم أن تكون المواقف الجريئة التي وقفها علماء الأمة مؤخراً، والتي بلغت ذروتها في مؤتمر إعلان الجهاد، أن تكون إيذاناً بعودة العلماء إلى الصفوف الأمامية وإلى قيادة الأمة كما ينبغي لوارثي النبوة أن يفعلوا، وأن يكمل علماؤنا المشوار ويسترجعوا دورهم المفقود، الدور الذي تريد الأمة منهم أن يلعبوه والذي توقفوا عن لعبه منذ قرون وقرون. وسوف أعرض في المقالة الآتية -إن شاء الله- تفصيل هذا الدور المفقود.