في بلاد الغربة كان علي أن أدخل غرفة الولادة مع زوجتي، لأواسيها وأقوم بدور أمها. وفي أول ولادة رأيت معاناتها خلال ثلاث وعشرين ساعة وهي تصرخ من الألم وتقول بأنها لن تحمل مرة أخرى. وسألت نفسي مراراً: ما الحكمة الربانية من جعل الولادة بهذا المخاض، وما السر خلف آلام المخاض؟ لاسيما وأنه ورد في الحديث النبوي الشريف (والمرأةُ تموتُ في نُفاسِها شهيدةٌ)؟
جاءني الجواب على تساؤلاتي من خلال الابتسامات العريضة التي ارتسمت على وجهينا بعد أن نزل ولدنا البكر، فما كادت القابلة تعطي الولد لأمه حتى راحت تضمُّه إلى صدرها وتقبّله. وانتهزتُ هذه الفرصة لأسألها: هل ستحملين مرة أخرى؟ كانت منهكة فلم تستطع الكلام ولكن هزت رأسها بالإيجاب.
تُرى لو أن التكاثر عند الإنسان يتم كما في النبات مثلاً فهل كانت الأم ستحب وليدها هذا الحب العظيم؟ وهل كانت ستشعر بأي عاطفة نحوه؟ وهل كانت ستفدي أولادها مدى حياتها؟ تجوع لتطعمهم، وتسهر من أجل راحتهم، وتقلق عند تأخر عودتهم، ولا يهدأ لها بال عند مرضهم…
جالت في ذهني هذه الصور والمعاني وأنا أرى تحديات المشهد السوري الراهن، رغم أني متفائل بولادة الوطن السوري من جديد، فالوطن سيولد من رحم المعاناة، لكن لابد للولادة من مخاض، ولابد للمخاض من آلام. وهذه الآلام هي التي تولِّد حب الوطن والتضحية من أجله.
ولادة الوطن لها مؤشرات، منها الأعمال الإيجابية التي انتشرت في كل مكان. فهؤلاء هم المعلمون والمعلمات، المربون والمربيات، الآباء والأمهات، يعملون في جد ونشاط لإعادة بناء المدارس التي هدمها القصف الجوي، أو لتأسيس مدارس جديدة، رغم قلة الإمكانات، وذلك حتى لا تنشأ أجيال على الجهل أو على الجريمة. قد يحب بعضهم الظهور في وسائل الإعلام لكن الأغلبية يعملون في صمتٍ بعيداً عن أضواء الشهرة وآلات التصوير والشاشات. ومن الأعمال الإيجابية إنشاء المستوصفات، الثابت منها والمتنقل، يعمل فيها أطباء جاؤوا من كل حدب وصوب، تاركين أهليهم وأعمالهم ورواتبهم المرتفعة ليواسوا مريضاً أو يعيدوا البسمة إلى وجه محروق من قذيفة…
لقد أصاب التدمير كل شيء! لكن الإصرار على الحياة لم يتحطم، والإبداع في العمل، رغم قلة ما في اليد، هو السائد. إنها النظرة الإيجابية رغم الآلالم، نظرة الأمل بدلاً من البكاء على الأطلال.
إن الدماء التي أريقت هي ضريبة للوصول إلى مستقبل أفضل لباقي الأجيال. والشعب السوري لم يكن يريد إراقة الدماء! فقد بدأ ثورته سلمية واستمرت كذلك أكثر من ستة أشهر، لكن الطاغية لم يستجب، بل أمر بإطلاق النار على المتظاهرين! وهذا ما سمعناه على التلفاز من الضباط المنشقين. ومادام السوريون قد قاموا بالثورة من أجل الحياة الحرة الكريمة فهم أحرى الناس بأن يقوموا ببناء الوطن.
إنهم متفائلون بالنصر بإذن الله، وبتحقيق أهدافهم النبيلة، لكن لا أحد يستطيع أن يتكهن متى أو ما هو الثمن الذي يجب دفعه للوصول إلى النصر. إنهم يعرفون شيئاً مهماً، وهو ضرورة العمل البنّاء من أجل الوطن الجريح. فطوبى لمن كان جزءاً من الحل المنشود، ويا خسارة من كان جزءاً من المشكلة. ومن أراد للوطن أن يولد من جديد فليُعطه بمقدار ما يستطيع من جهد، وليحذر أن يكون من المثبطين أو القانطين أو اليائسين.
الثوار في ساحة المعركة، وغيرهم في ساحات العمل الأخرى، ليحصل التكامل وصناعة المستقبل المشرق للأجيال القادمة، فناطحة السحاب لا ترتفع إلا بجهود الجميع، وبناء الوطن يتطلب ما يشبه المستحيل وقبول التحدي، والأحلام لا تنقلب إلى طموحات ما لم يُبدأ بتنفيذها، ولن تسأل الأجيال القادمة كيف وُلد الوطن من جديد؟ وإنما سيسألون: من شارك في بنائه؟
أكتب هذا في الوقت الذي ينعقد فيه مؤتمر الهيئة السورية للإعمار في استانبول، الذي يأتي بعد أقل من شهرين على انعقاد مؤتمر الهيئة السورية للتربية والتعليم. وهناك هيئات ومنظمات عديدة أخرى تجتهد كلها في الوصول بالوطن إلى شاطئ السلامة. ونسأل الله أن يعجّل بالنصر.