من نحو أسبوع تداولت صفحات الثورة خبراً منسوباً إلى دبلوماسي فرنسي ينقل فيه عن “مصادر أميركية مطلعة” أن الرئيسين الروسي والأميركي سيناقشان -حينما يلتقيان الشهر القادم في قمة الثمانية- حلاً للمشكلة السورية من أهم بنوده جرّ طرفَي الصراع إلى المفاوضات، على أن يسبق ذلك تعيينُ مناف طلاس قائداً لما يسمى “المجلس العسكري الأعلى” الذي يقوده حالياً العميد سليم إدريس، على أن يكون من أهم مهماته “تصفية الجماعات المتطرفة”، كجبهة النصرة وأحرار الشام وسواهما من الجماعات غير المقبولة أميركياً.
فقلت في نفسي: لعله خبر منحول، ولكنه قريب من الواقع في كل الأحوال. ثم نشرت جريدة “الحياة” قبل يومين أخباراً نسبتها إلى “مصادر دبلوماسية غربية” تؤكد تلك الخطةَ الخبيثة، وفيها أن الطرفين الأميركي والروسي يدفعان بقوة باتجاه فرض الحل السياسي في سوريا، وأن الأميركيين يريدون دمج وحدات من الجيش الحر بالجيش السوري (أي جيش الاحتلال الأسدي) تمهيداً للانتقال إلى الخطوة المهمة اللاحقة، وهي محاربة “الجهاديين” وفرض تسوية تدعمها قوات حفظ سلام دولية.
حسناً، هذه هي الخطة إذن: محاربة “الجهاديين” وتصفية “المتطرفين”؟ فأما المصطلح الأول فإنه مفهوم تماماً، وفي الحقيقة فإن حمله شرفٌ لحامله، وأنا يحزنني أنني لم أحمله إلا بالاسم فيما حمله غيري -من ليوث الشام وأبطالها الميامين- بالفعل الصادق. ولكن ماذا عن المصطلح الثاني؟ ما الذي يصنعه المرء لكي يكون متطرفاً؟
فكرت فوجدت أن التطرف هو القصد إلى أحد طرفَي المشكلة، وكل مشكلة وكل مسألة في الدنيا لها طرفان، فمَن جنح إلى أيّهما وترك الوسط فهو متطرف. “المشكلة” هنا في حالتنا هي معركة واضحة صريحة مع نظام احتلال وحشي مجرم، ولها طرفان: طرف يدعو أصحابُه إلى وقف الثورة بالكلّية وبقاء الأمر على ما كان عليه (وهؤلاء المتطرفون لا مشكلة بينهم وبين المجتمع الدولي كما نعلم)، وطرف آخر يصرّ على نقض الغَزْل القديم كله ونَسْج عباءة جديدة للوطن، نظام جديد لسوريا ليس فيه من النظام القديم أحد.
لقد أخلص مجاهدو “أحرار الشام” و”النصرة” وسائر “الجماعات الجهادية غير المقبولة أميركياً” في محاربة النظام، و”تطرفوا” في مطالبهم فأصروا على إسقاطه كاملاً غيرَ منقوص، وعلى ولادة دولة سورية حرة جميلة ليس فيها ظلم ولا استبداد. إذن فإنهم في غاية التطرف بالتأكيد! بهذا المعنى اكتشفت أنني أنا نفسي من المتطرفين، فوجدت أن من حقي، بل من واجبي، أن أدافع عن نفسي وعن أصدقائي المتطرفين، فكتبت هذه الكلمات.
تقول الخطة المفترَضة: “سيتولى مناف طلاس مع الجيش الحر تصفية الجماعات المتطرفة، جبهة النصرة وأحرار الشام وغيرهما من الجماعات المتطرفة غير المقبولة بالنسبة للولايات المتحدة، وبمجرد تصفية تلك الجماعات الإرهابية فإن المجلس العسكري الأعلى سيشكل وفداً عسكرياً برئاسة الجنرال مناف طلاس، وينضم إلى المفاوضات التي ستعقد بين الأطراف السورية برعاية الولايات المتحدة وروسيا، ويتم التفاوض حول جميع نقاط الخلاف بين الطرفين وإنشاء حكومة مؤقتة تُمنح كل الصلاحيات ما عدا الشؤون الخارجية والداخلية والأمن والدفاع (أو بعبارة أخرى: حكومة وطنية تقتصر صلاحياتها على تنظيف الشوارع وترميم المدارس وتشغيل الأفران وتصميم طوابع البريد). وأخيراً تقول الخطة: إن الأميركيين يثقون بطلاس ويعتقدون أنه قادر على تحقيق ما يُطلَب منه، والحكومة الروسية أكثر ثقة وترى أنه قادر على انتزاع الولاء للنظام الجديد”.
كنت أقرأ في كتب الأدب القديمة أن فلاناً ضحك حتى استلقى على قفاه، ولقد ضحكت فعلاً من هذا الهُراء العجيب حتى كدت أصنع ذلك! لا بد أنكم ضحكتم مثلي، ولا بد أنكم ظننتم وأنتم تقرؤون الخطة السابقة -كما ظننت أنا- أنها قطعة من مسلسل فكاهي كوميدي ضعيف التأليف والإخراج!
سيذهب مناف طلاس وبعض الخونة الذين سينضمون إلى قيادته (ولنقل إنهم ألف خائن، والألف كثير!) سيغيبون يومين فيقضون على “الجهاديين والمتطرفين” ثم يلتحقون بمؤتمر الخيانة والاستسلام ليشاركوا في المفاوضات. هكذا وبكل بساطة؟ إن القارئ يكاد يظن أنهم يتحدثون عن رحلة كشفية أو نزهة لصيد الفراشات والعصافير، لا عن “ملحمة” من أعظم ملاحم هذا الزمان، معركة فشل في حسمها جيشٌ عَرَمْرم يملك ثلث مليون جندي وعشرة آلاف دبابة، وتمده من خلفه بالعتاد والسلاح والمال والرجال دولٌ وميليشيات!
هل أقول الحقيقة أم أبدو فَجّاً لو قلتها؟ إنني بشوق لمشاهدة فصول تلك المعركة بين أسود المجاهدين المتطرفين ومرتزقة مناف طلاس، وأوجه لهؤلاء الخونة نصيحة: لا تُتعبونا كما صنع حزب الشيطان في القصير، أحضروا معكم الصناديق والأكفان فلا وقت عندنا للتعبئة والتغليف.
سواء أكان كل ما نُشر صحيحاً أو كان ملفّقاً فإنه لا يغير شيئاً من الحقيقة التي بات يعرفها الجميع، وهي أن المجتمع الدولي لا يعتبر اليوم أن معركته هي مع النظام السوري المجرم، بل مع الجماعات الجهادية التي تحارب ذلك النظام. إنهم يتربصون بخير أجناد الثورة وكتائبها ويرسمون الخطط الخبيثة لضربها وتصفيتها لكي يخلوَ لهم الميدان، فيصولوا فيه ويجولوا كيف شاؤوا ويفرضوا على سوريا وعلى السوريين الحل الذي يريدون.
ألا شاهت الوجوه! وما أضل الحسابات التي يحسُبون! إنهم يظنونها معركة بين جيش وجيش فحسب؛ بين جيش الحق الذي تمثله جماعات سوريا المجاهدة، وجيش الباطل الذي يتكون من جيش الاحتلال الأسدي والغزاة الذين جاؤوا من خارج البلاد، ومعهم بعض الخونة الذين لا تخلو منهم معركة ولا بد أن يوجدوا في كل مجتمع من المجتمعات البشرية. يظنون أنها معركة بين طرفين لا غير، هذا الجيش وذاك، وينسَون الطرف الثالث الذي هو أهم الأطراف على الإطلاق، الشعب السوري المسلم الحر الأبيّ العظيم.
ويلكم يا أيها المتآمرون! أين تذهبون بشعب لم تكسر قَناتَه أشرسُ آلة للإجرام في هذا الزمان الأخير؟ شعب عجز عن إخضاعه “سفّاح العصر” الذي ربيتموه على أعينكم وربيتم ورعيتم من قبله أباه السفاح الكبير؟ شعب قُنِص أحراره واعتقلوا وعُذّبوا فصبر، ثم حوصرت مدنه وسُلبت منه أسبابُ الحياة فصبر، ثم قُصف من البرّ ومن الجو ومن البحر واستحال نصف بلده خراباً بلقعاً فصبر؟ هل تظنون أن هذا الشعب الصادق المصابر سيقف على الحياد ويكتفي بمراقبتكم وأنتم تحاربون المتطرفين؟
ومَن هؤلاء المتطرفون، أحرار الشام ولواء التوحيد ولواء الإسلام ولواء الحق وأنصار الإسلام وجبهة النصرة، وغيرهم من أهل الصدق والإخلاص والنكاية في العدو؟ إنهم الإخوة للإخوة والأبناء للآباء والآباء للأبناء، هم منا ونحن منهم، بعضنا من بعض وبعضنا أولياء بعض.
لقد ضمت الجبهة الإسلامية لتحرير سوريا وجبهة تحرير سوريا الإسلامية وجبهة النصرة خيارَ أهل الجهاد على أرض الشام، ما علمنا منهم إلا خيراً ولا رأينا إلا الصدق والإيمان والشجاعة والثبات في الميدان، ولئن انتقدنا يوماً أخطاءهم أو تجاوزاتهم فما صنعنا ذلك إلا من باب النصح الواجب، أما أن نبيعهم للعدو فلا يصنع ذلك إلا عديم مروءة وعديم دين، أسأل الله أن يحفظ علينا المروءة والدين. لقد علمنا وعلموا أن لنا عليهم ولهم علينا؛ لنا عليهم أن يحمونا من عدونا وأن يحترموا كرامتنا وحريتنا ولا يفرضوا علينا شيئاً يوماً إلا برضانا، ولهم علينا أن نحضنهم ونبرّهم ونحمي ظهورهم ولا نُسْلمهم إلى عدوهم ولو تقطعت منّا الأعناق.
يا أعداء الله ويا أعداء سوريا والسوريين: لقد بلوناكم فعرفناكم وجربناكم فكشفناكم؛ لا تبالون أن يُباد نصف الشعب السوري ولا يهمّكم أن تُمسَح من خريطة سوريا مدن كاملة، إنما يرعبكم ويقضّ مضاجعكم أن ترتفع في أرض الشام للإسلام رايةٌ وأن يستمتع السوريون بيوم حرية لا عَسْفَ فيه ولا جَورَ ولا استبداد.
يا أيها الأعداء: بأي شيء استحق المجاهدون الصادقون في سوريا نقمتكم؟ لا والله ما نقمتم منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد. وإنّا -معاشر السوريين- قد آمنّا بالله العزيز الحميد الذي به يؤمنون، وإنا نقولها لكم بالصوت العالي فاسمعوها وَعُوها: المجاهدون في الشام إخواننا وأهلونا، أرأيتم أحداً يبيع الأهل والإخوان؟ وهم السدّ بيننا وبين عدونا، أرأيتم عاقلاً يهدم السد ليغرقه الطوفان؟
إنها ليست معركة بينكم وبينهم، بل بينكم وبيننا، فمن أين تصلون إليهم إلا إذا اخترقتم سداً من ملايين الأحرار؟ ومن أين تصلون إلى الأحرار إلا إذا اجتزتم خنادق المجاهدين والثوار؟ إنها دائرة مغلقة لن تكسروها بإذن الله أبداً، وبإذنه تعالى لن تسرقوا ثورتنا بعدما أوشكت على الوصول إلى بر الانتصار.