في مثل هذا اليوم -قبل أربعة عشر عاماً- مضى علي الطنطاوي إلى حيث يمضي كل حي، عليه رحمة الله. ترك الدنيا وفي قلبه أمنيّة لم تتحقق، العودة إلى دمشق ولو يوماً قبل الممات. فإن يكن اشتاق إلى الشام يوماً فإنها اليوم أكثر له شوقاً وأشد إليه حاجة، تقول: إنا إليك محتاجون وإنا على فراقك -يا عليّ- محزونون. نفتقد كلماتك النابضة بالحياة لتصبّ في أعصاب الموتى الحياة، المشرقة بالأمل لتبعث في قلوب اليائسين الأمل، المتوهجة بالحماسة والشموخ لتضخّ في نفوس الخاملين القاعدين الحماسة والشموخ.
قال في ذكرياته التي نشرها في أواخر عمره: “كنا نسكن في سفح قاسيون. أين مني الآن قاسيون؟ حرم الله الجنّةَ ونعيمَها مَن حرمني من جواره، حتى إني لأخشى أن أموت قبل أن تكتحل عيناي برؤية قاسيون.”
ومات رحمه الله ولم يرَ قاسيون! وقال في موضع آخر منها:
دمشق التي حُرِمتُ من رؤيتها وحُرّم عليّ دخولها جمعَت من كل شيء: فيها الجبل والوادي، والجنان والبساتين، والأنهار الجارية والثمار الدانية، وكل ذلك أُلِمّ به بنظرة واحدة من شرفة بيتي في قاسيون… أين مني بيتي وأين قاسيون؟ أحسب أني سأموت قبل أن أتزود منه بنظرة، فللّه وحده الشكوى.
وهل مِن سبيلٍ للشآمِ؟ ونظرة *** إلى برَدى قبلَ المماتِ سبيلُ؟
هل أرى الربيع في الغوطة والثلج على شعفات جبال المزة؟ أم انقطع به عهدي فلا أمل لي فيه؟ وهَبُوني عُدتُ، فهل أرى في الشام دار شبابي ومنازل أهلي وأصحابي؟ إن عُدت إليها فهل تعود أيامي فيها؟ هل أقف على القبرَين المتجاورَين النائمَين متعانقَين على كتف الساقية في “الدحداح” كما كان يتعانق ساكناهما في الحياة؟ إن فيهما أبي وأمي. لقد دفنت مسرّات حياتي في هذين الجَدَثين.
وجدَث ثالث فيه مَن هو أعزّ عليّ منهما، ما عرفتُ الطريق إليه حتّى أقف عليه. وماذا يفيدني أن أقف عليه وقد حال التراب بيني وبين قطعة عزيزة من قلبي أُودِعَت فيه؟ إني لأريق الدمع كل ليلة أسقي بها هذا القبر البعيد في طرف بلاد الألمان حيث لا يراني أحد، ثم أنتبه فأجد أنه لا الدمع ينفع مَن فيه ولا الأحزان، ما ينفعني ولا ينفعها إلاّ الرحمة من الله والغفران. فاللهمّ قد أكرمتها بالشهادة فارزقها ثواب الشهداء، وارزقنا الصبر على البلاء.
اللهم ارحمه برحمتك رحمة واسعة، اللهم اغفر له وأَحسنْ إليه حيث هو، اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وعوضنا عنه من يجاهد جهاده ويعمل عمله. اللهم أدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار، آمين.