النظام في سوريا يقاتل اليومَ قتالَ اليائسين، ومن الغرائب أن بعض أهل الثورة يروّجون ما يحبّ النظام ترويجه وينشرون الوهم الذي يحب نشره وخداع الناس به، وهو أنه ما يزال قوياً صامداً، وأنه يتقدم على حساب الثورة يوماً بعد يوم. هؤلاء الناس من أهل الثورة -سامحهم الله- يعيدون تدوير بضاعة أنتجها النظام لعبيده ومريديه، وهي مصمَّمة على قَدْر عقولهم فلا غرابة أن يقتنعوا بها ويستجيبوا لها، ولكن كيف انطلت الخدعة على عقلاء الثورة وأنصارها؟
ليس هذا المقام مقام خطابيات وحماسيات فدعونا من لغة الخطابة والحماسة؛ إنها مسألة حقائق يدركها كل ذي نظر، ولو شئتُ لجمعت عشرات الأدلة والإشارات التي تقول كلها إن النظام يتهاوى باستمرار، ولكني لن أوسّع القول، سوف أكتفي بالعلامات السبع الكبرى، وكل واحدة منها تقول لو نطقَت: إن النظام البائس يمشي مسرعاً إلى الفناء بإذن الله.
1- فقَدَ النظام العدد الأكبر من المعابر الحدودية البرية التي تربط سوريا بدول الجوار، وقد فشل في استعادتها رغم مرور سنة على خروجها عن سيطرته. منذ شهر تموز 2012 بدأت المعابر السورية التركية بالتساقط واحداً بعد واحد حتى لم يبقَ إلا معبر كسب في أقصى الغرب، وأكثر معابر العراق صارت بأيدي الثوار، أما المراكز والمخافر التي تنتشر على الحدود السورية الأردنية فإنها تتهاوى كل يوم، حتى لقد أوشك جنوب حوران أن يصبح كله قطعة محررة من أرض الوطن. أيقال لنظام فقد السيطرة على حدود البلاد وعجز عن استعادتها في سنة كاملة إنه نظام قوي؟ كيف يمكننا أن نتخيل دولة مستقلة ليس لها على حدودها سلطان؟
2- فقد النظام ثلث مطاراته العسكرية وبقيت له سيطرة منقوصة على ثلث آخر، أما المطارات المدنية فقد بات عاجزاً عن استعمالها استعمالاً آمناً باستثناء مطار واحد في اللاذقية، حتى صار ضيوف النظام عاجزين عن النزول في مطار العاصمة وصاروا يضطرون إلى سلوك الطريق البري الطويل الخطير من لبنان إلى دمشق! لقد بلغ من تهافت هذا النظام البائس أن رئيسه ومسؤوليه لا يجرؤون على الإقلاع من مطار عاصمة البلاد والهبوط فيه، ولا يقدرون أصلاً على الوصول إليه، فكيف يكون نظاماً قوياً وهو عاجز عن حماية وتشغيل مطار العاصمة؟
3- فقد النظام ثلث العاصمة على الأقل (الأحياء الشرقية والجنوبية) وفقد ضواحي العاصمة (الغوطتين الشرقية والغربية)، وباءت كل محاولاته المستميتة لاسترجاع تلك المناطق الحيوية بالفشل، رغم الجهود الجبارة التي بذلها في نصف عام مضى، ورغم كل الأسلحة الفتاكة التي استعملها، بما فيها المدفعية الثقيلة والصواريخ والطيران الحربي. لقد مرّغت بلدةٌ صغيرة اسمُها داريّا رأسَ جيش الاحتلال الأسدي بالتراب، فإنه عجز عن اقتحامها بعد خمسة أشهر من الحصار والقتل والدمار، وتكسرت على تخومها هجماته المتكررة حتى صار أضحوكة بين جيوش الأرض. ما هذا النظام الذي لا يستطيع أن يسيطر حتى على عاصمة البلاد؟
4- فقد النظام الخزّانَ الإستراتيجي للطاقة والغذاء الذي يمد سوريا بثلاثة أرباع حاجتها من القمح وأربعة أرباع حاجتها من النفط والغاز؛ تلك المنطقة الغنية من سوريا في الجزيرة، في الحسكة والرقة ودير الزور، وباءت كل محاولاته لاسترجاعها بالفشل، حتى وصل إلى اليأس الكامل وراح يبحث عن مصادر بديلة للطاقة من خارج الحدود. إن أي عاقل يدرك أن النظام الذي يخسر شريان بقائه من الطاقة والغذاء هو بالضرورة نظام عاجز لا حظّ له في البقاء، وأنه يمشي في طريق متسارع نحو الفناء.
5- تجاوز النظام أعرضَ الخطوط الحمراء التي رسمها لنفسه، الخط الذي بقي متشبثاً به لنحو عامين كاملين، وهو اعتبارُه الثورةَ السورية حركةَ تمرد تقودها عصابات مسلحة، ورفضُه المستمر للحوار مع تلك العصابات قبل إلقاء السلاح. لقد بات قَبوله بالجلوس مع الثوار على طاولة المفاوضات أمراً واقعاً، في الوقت الذي صار الثوار هم الطرف الأقوى وهم الذين يصرّ أكثرهم على النأي بأنفسهم عن التلوث بمحاورته. لا يمكن أن يقدّم النظام هذا التنازل الكبير إلا إذا فقد الأمل في قدرته على هزيمة الثورة، وهو اعتراف ضمني بقوّتها وضعفه وبأن القضاء عليها بات من المستحيلات.
6- من أكبر العلامات على عجز النظام وتهاويه تصاعدُ وتيرة العنف وصولاً إلى الصواريخ البالستية والأسلحة الكيماوية. عندما كان النظام قوياً تصدى للثورة بالقناصات والرشاشات، وعندما عجز عن وقفها لجأ إلى اقتحام المدن واحتلها احتلالاً عسكرياً كما تصنع جيوش الأعداء ببلاد الأحرار، فلما عجز عن إخضاعها بدأ بقصفها بالمدافع والدبابات، ثم أدخل إلى المعركة طيرانه الحربي عندما ازداد عجزاً، وحينما فقد السيطرة الكاملة على مناطق واسعة من سوريا بدأ بقصفها بالصواريخ البالستية، وأخيراً أدخل إلى المعركة السلاح الكيماوي رغم معرفته بخطورة استعماله (بغض النظر عن الموقف الدولي المتخاذل من هذه المسألة)، ولم يصنع ذلك إلا عندما تعرّض وجوده إلى خطر محقّق وصار سقوطه أقربَ إليه من حبل الوريد.
7- الاستعانة الصريحة بعصابات طائفية من لبنان وإيران والعراق ومقاتلين شيعة من اليمن والبحرين وأفغانستان وباكستان. هذه هي النقطة الأكثر أهمية على الإطلاق والأكثر دلالة على انهيار النظام، لذلك سأتوسع فيها قليلاً.
لقد خسر محور الممانعة المزعوم خسارةَ العمر بسبب الدخول الفجّ الصريح لحزب الله في المعركة، فإن الحزب المنافق الذي أجاد على الدوام أساليب الخداع والتمويه كان يعلم أن الثمن الذي يدفعه مقابل إعلان من هذا النوع كبير خطير، ولئن كان قد خسر الكثير من رصيده الشعبي بسبب مشاركته المستترة السابقة في الحرب فإن دفع قواته إلى الغزو العلني المباشر سوف يُفقده كل ما تبقى من ذلك الرصيد القديم. لقد حرق أسطول السفن الذي استغرق في بنائه ربع قرن من الزمان، وليس أسطوله فقط هو الذي احترق، لقد صار المشروع الفارسي الإيراني الشيعي كله طعاماً للنار! فهل كان لإيران أن تُقْدم على هذا الانتحار لولا أن الحليف الرئيسي في المحور الشرير، النظام السوري، صار على عتبة الانهيار؟
لكن لماذا خاطر الإيرانيون هذه المخاطرة؟ لماذا اضطروا إلى إرسال مليشياتهم الطائفية اللبنانية والعراقية إلى سوريا في غزو مكشوف حرّك العالم السني وفجر بركان الغضب في كل مكان؟ لسبب بسيط، لأن النظام لم يعد يملك العدد الكافي من المقاتلين، لأن جيشه تفتت ولم يبقَ منه إلا القليل! هذه هي الحقيقة الساطعة، وهي أهم المؤشرات الدالّة على انهيار النظام.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يُنظَر إلى المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن (IISS) على أنه المصدر الأهم والأكثر مصداقية فيما يتعلق بجيوش العالم والقدرات العسكرية للدول المختلفة، وهو يُصدر نشرات وتقارير كثيرة على مدار العام، إلا أن التقرير السنوي الشامل الذي يصدر مرة كل سنة بعنوان “الميزان العسكري” هو المصدر الأهم الذي يترقبه الدارسون وتحتفل بصدوره مراكز الدراسات حول العالم.
أصدر المعهد تقريره عن عام 2012 في الرابع عشر من آذار 2013، وقد خصص -كما هو متوقع- جزءاً مهماً منه لدراسة الوضع العسكري في سوريا، وأكد أن الجيش السوري فقد أكثر من نصف عدد أفراده خلال العامين المنصرمين بسبب الموت في المعارك والهروب والانشقاق. وقد فوجئ كثير من الدارسين الأجانب بالنتيجة التي انتهى إليها التقرير، وهي أن الجيش الذي يستعمله النظام ويعتمد عليه في المعارك الجارية في كل أنحاء سوريا صار يقتصر على نحو خمسين ألف مقاتل فقط، يتوزعون على الفرقتين الثالثة والرابعة والحرس الجمهوري وأفواج القوات الخاصة. معنى هذا أن القوة القتالية الحقيقية للجيش السوري قد فقدت أربعة أخماسها تقريباً ولم يبقَ منها إلا الخمس (كان عدد أفراد الجيش في أول الثورة قريباً من ربع مليون، والحديث هنا عن الجيش البري فقط وليس عن كل فروع القوات المسلحة).
وقد عقد المعهد مؤتمراً صحفياً أطلق فيه تقريره السنوي، وفي ذلك المؤتمر تحدث مديره التنفيذي، جون تشبمان، قائلاً: “إن التأثير التراكمي للانشقاقات الكثيرة وحالات الهروب من الخدمة وانهيار المعنويات والخسائر الجسيمة في الأرواح بسبب المعارك المستمرة، هذه كلها سيكون لها الأثر الأكبر في تحديد نتيجة المعركة، ومن المتوقع أن تستمر قدرات النظام وسيطرته في التقلص خلال الشهور القادمة”.
فيا أيها الأحرار، يا أهل الثورة الكرام: لا تبتلعوا الطعم الذي رماه لكم النظام، ولا ترددوا الإشاعات التي تشيعها وسائل الإعلام. هل هَزّ سقوط القصير ثقتكم بثورتكم حتى شككتم في قدرتها على الانتصار؟ إن كان هذا ما صار فتذكروا أن الأسبوع الذي شهد سقوط القصير شهد تحرير خمسة أمثالها من أراضي البلاد، ولكن القصير خطفت الأضواء وضيّعت علينا الاستمتاع بما حققته الثورة في سائر المناطق من عظائم الانتصارات، ولعلي أنشر في بعض الكتابات القادمة قائمة بتلك الانتصارات.
ثقوا -يا أيها الأحرار- بأنفسكم وبثورتكم، وثقوا قبل ذلك وبعده بالله وبنصر الله. وكما قلت في كلمة صغيرة نشرتها في صفحتي قبل يومين: لم يعد سقوط النظام محلّ بحث أو سؤال. النظام سقط من يوم خرج أبطال سوريا وهتفوا بسقوطه، منذ ذلك اليوم بدأ سقوطه فهو اليوم يهوي في الفضاء نازلاً إلى حتفه، ولم يبقَ إلا أن نسمع صوت ارتطامه بالأرض، في يوم قريب بإذن الله الواحد القهار.