لم أختر عنوان الكلمة للصابرين الثابتين الذين أذهلوا بثباتهم الدنيا وضربوا الأمثال للناس بصبرهم العجيب على المحنة، وهم الأكثرون في أهل سوريا الكرام، فما وجدتهم إلا راضين عن الله صابرين على بلائه حامدين على قضائه، لأنهم علموا أنه لا يختار لعباده الذين يحبهم إلا الخير. إنما أخاطب فئة من الناس، لعل أكثرهم من الذين يعيشون خارج سوريا كما لاحظت، ما يزالون ينثرون اليأس والتشاؤم أنّى ساروا كما تنثر الريحُ حبَّ الرمل على وجه الصحراء.
يا عباد الله: لماذا كلما دعاكم داع إلى الصبر غضبتم وثارت ثائرتكم وبدأتم بمعزوفة الشكوى الكئيبة: تفضلوا وعيشوا تحت القصف يوماً ثم حدثونا عن الصبر، جوعوا كما يجوع المحاصَرون ثم طالبوهم بالصبر، قدّموا من أنفسكم وأهليكم شهداء ثم تذكروا فضيلة الصبر… شكاوى وبكائيّات لا تنتهي.
أقول لهؤلاء البكّائين الشكّائين: ليس في يدي ولا في يد غيري ممّن يدعون إلى الصبر مفتاح الفرج، ولا نحن صنعنا هذه الثورة العظيمة التي تفجرت بأمر الله وعلى عينه، بل ولا يكاد أحدٌ يعرف كيف بدأت وكيف صمدت وكيف مضت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، فهي قَدَر قدره الله لهذه البلاد وهؤلاء الناس الذين اصطفاهم -دون سواهم- لحمل عبء التغيير وإيقاظ الأمة من رُقادها الطويل.
إن قدر الله لا يُرَدّ إذا جاء، لا يرده الجزع ولا تحبسه الشكوى، فمن صبر عليه أُجِرَ ورضي واطمأن قلبه وسكنت نفسه، ومن تسخّط أثم ثم لم يغير سُخطه شيئاً. في حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضا ومن سَخِط فله السُّخط” (أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة وقال: إسناده حسن).
يا أيها المؤمنون: اصبروا وتفاءلوا ولا تيأسوا ولا تَشاءموا؛ لا تكونوا كذلك الرجل الأحمق الذي ابتُلي فصَبَّرَه النبي عليه الصلاة والسلام فلم يتصبّر، فأخذه الله بسوء ظنه به. أخرج البخاري عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، فقال: “لا بأس عليك، طَهور إن شاء الله”. قال الأعرابي: طهور؟ بل هي حمى تفور على شيخ كبير تُزيره القبور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فنعَم إذن”.
وفي رواية عن شرحبيل بن عبد الرحمن أخرجها الهيثمي في مجمع الزوائد: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه أعرابي طويل ينتفض، قال: يا رسول الله، شيخ كبير به حمى تفور تُزيره القبور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شيخ كبير به حمى تفور هي له كفّارة وطَهور. فكرر الرجل مقالته، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مرات (أي: وهو مُصِرّ على ترديد مقالته)، فقال عليه الصلاة والسلام: أمّا إذ أبيت فهي كما تقول، وما قضى الله كائن. قال شرحبيل: فما أمسى الرجل من الغد إلا ميتاً.
اللهُمّ إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس. اللهمّ إنّا راضون حامدون صابرون، لا نعترض على قضائك ولا نسخط من بلائك، غيرَ أن عافيتك هي أوسع لنا، ففرّج اللهم عنا الكرب وارفع عنا البلاء. اللهمّ لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول لا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين.