استخلصت من الانقلاب العسكري في مصر -كما بينت في المقالة الأخيرة- فائدتين كبيرتين كانت إحداهما: “حكم العسكر خط أحمر”، قلت فيها إن على السوريين والعرب والمسلمين جميعاً أن يرفضوا حكم العسكر، لأن الجيوش مهمتها حماية الأوطان لا حكم الأوطان ولأن القوة تقود إلى الاستبداد والطغيان، فسألني إخوة كرام: هل تصحّ هذه القاعدة أيضاً في حالة الجيش الحر والجماعات المقاتلة في سوريا؟
سبحان الله! لماذا لا تصحّ؟ هل نضع قاعدة لنا وقاعدة لغيرنا؟ هذه القاعدة المهمة صالحة لكل الأمم وفي جميع الأزمنة. وهي ليست للانتقاص من العسكر، فإن الأمم الحيّة الحرة تعتبر جيوشها من أهم المؤسسات التي تملكها وتنظر إليها بتقدير واحترام، وهذا هو موقفنا من المجاهدين الذين يقاتلون اليوم في سوريا ويقدمون أنفسهم في سبيل الله والحق والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان. فنحن إذن لا نقرر قاعدة للانتقاص من العسكر ولا من المجاهدين، بل هي قاعدة لحفظ مصلحة الأمة والبلاد.
لقد قلت في مقالتي الماضية إن أمتنا الإسلامية عانت من الحكم العسكري في تاريخها الطويل ما لا يُحصى من الكوارث والطامّات، وأستطيع أن أفصّل هذه الجملة الصغيرة في مئات الصفحات. إن كل دارس للتاريخ يعلم أن ضَعف الأمة الإسلامية وانهيارها كان مترافقاً دائماً مع تسلط الجيش وقادة العسكر على الدولة وتدخلهم في الحكم، من أيام العباسيين إلى أيام العثمانيين، والسبب مفهوم: لأن حكم العسكر استبدادي بطبيعته، حتى لو تلبّس بلَبوس الدين، والاستبداد يقتل الكرامة ويحول الإنسان الحر إلى عبد خانع ذليل، فمن أين يستطيع العبيد أن يقاتلوا أعداءهم قتال الأحرار؟ هذه الفكرة المختصرة تختزل مجلدات من الدراسات الاجتماعية والسياسية والعسكرية التي تبيّن أسباب الانهيار السريع للدول ذات الأنظمة العسكرية والشمولية، وتعلل عدم قدرتها على الصمود في الحروب.
سوف يأتي يوم (قريب بإذن الله) يسقط فيه نظام الاحتلال في سوريا وينهار جيشه وتتفكك أجهزته الأمنية المجرمة، فماذا سيصنع مئة ألف من المجاهدين الذين حملوا السلاح وقاتلوا النظام البائد؟ أين موقعهم من النظام الجديد؟ هل سيكون لهم دور في حكم البلاد؟ لا تؤخروا الجواب عن هذه الأسئلة ليوم السقوط بل أجيبوا عنها منذ اليوم. أنا سأجيب:
لا يستوي مَن أنفق من قبل السقوط وقاتل ومَن قعد بلا إنفاق ولا قتال. والإنفاق ليس إنفاقَ مال فقط، بل هو إنفاق كل جهد مهما كان نوعه، في الثورة المدنية والعمل الإغاثي والطبي والإعلامي وسائر أنواع العمل الثوري، فكل من اجتهد وجاهد له سابقة لا ينكرها إلا جاحد، وهؤلاء أَولى من غيرهم بالمشاركة في صياغة مستقبل سوريا كما شاركوا في صياغة حاضرها، ولكن بشرط مهم: أن تكون المشاركة من خلال المؤسسات المدنية وليس من خلال الكيانات العسكرية.
إن القوة إذا دخلت في السلطة استأثرت بها وهيمنت عليها إذا كانت واحدة، وتسببت في التنافس الشرس عليها والاقتتال دونها إذا كانت متعددة، فهي في كل الأحوال مفسدة مطلقة، وهي بوابة الاستبداد والطغيان، فلم يحصل يوماً أن عاش الاستبداد بلا قوة، ولم يحصل أن سادت القوة (كانت لها السلطة والسيادة) إلا وقادت إلى الاستبداد. إن اجتماع السلطة والقوة (أي القوة العسكرية) في يد طرف واحد بابُ شر عظيم لم تسلم منه أمة في كل العصور، وما اجتمعا في يد فرد إلا طغى وبغى، ما خلا الأنبياءَ وصفوةَ الخلق الذين اجتمعت لهم السيادة والقوة فصلحوا وأصلحوا الدنيا، كداود وسليمان ومحمد عليهم صلوات الله، والراشدين وقلة من حكام المسلمين في تاريخنا الطويل كله، وهؤلاء استثناء للقاعدة لا يُقاس عليهم ولا يُؤمَن وضع القوة في أيدي غيرهم من الحكام.
القاعدة الكبرى التي أرجو أن يتفق عليها الجميع هي: “إن القوة المادية لا تصنع الحق، ولكنها تحمي الحق”. هذه القاعدة لي إليها عودة في كتابات سأنشرها قريباً -إن وفقني الله- تحت عنوان “تأملات في فلسفة القوة”، فلن أتوسع فيها اليوم، لكني أؤكد معناها فقط: إن القوة عمياء والحق مبصر، فإذا قادت القوةُ الحقَّ ضَلّت به الطريق وضاع الجميع، وإذا قاد الحقُّ القوةَ كان هادياً لها وكانت حارسة له وسلم الجميع.
فمن شاء من أهل السابقة والجهاد أن يشارك في قيادة البلاد بعد التحرير والاستقلال فإن الميدان مفتوح له، فليرشّح نفسه لما يرى أنه يصلح له من مناصب وأعمال، وليراهن كل واحد على إخلاصه وصدقه وعلى ما قدمه في هذه الأيام الفاصلة، فإن الله لا ينسى المعروف والناس لا ينسون السابقة، وهم يملكون بصيرة ويستطيعون التمييز بين العاملين والخاملين وبين الصادقين والكاذبين، فاعتمد -يا أيها المجاهد ويا عبد الله- على ذلك لا على قوة السلاح. من أجل نفسك ومن أجل أولادك وبلادك لا تخلط القوة بالسلطة، فإما أن تكون مشاركاً في السلطة أو تكون حارساً للحق مانعاً من التجاوز والطغيان.
بقيت كلمة أخيرة أوجهها إلى إخواني في كل الجماعات المقاتلة، ولا سيما الكتائب والجبهات الإسلامية: نريد منكم عهداً ووعداً أن تتبنّوا منهجاً واضحاً صريحاً يمنح السوريين الحق في اختيار حكّامهم بلا فرض ولا استبداد من أي طرف مهما تكن القوة التي يملكها، فلا تكون الإمامة في الأمة إلا بالوكالة، أي بتوكيل مجموع الأمة لحكامها على المنهج الذي جرى عليه خلفاؤها الراشدون، وأن تتبرؤوا جميعاً أمامنا وأمام الله من منهج “ولاية التغلّب”، فإنه منهج فاسد في أصله الشرعي، وما أجازه الفقهاء إلا من باب دفع أعظم الشرّين، فهو عندهم كالنكاح الفاسد الذي لم يستكمل شروطه -من شهود وصداق- فلو أدركوه قبل الدخول فسخوه، ولو لم يدركوه إلا بعده أمضوه من باب القبول بأهون الضررين.
إن في اعتماد هذا المنهج في سوريا فتنة كبرى وضرراً أعظم من كل ضرر، فإنه أمر لا يتم إلا بالتنافس بين الجماعات المختلفة التي يحمل كل منها منهجاً غير الذي يحمله غيرها، فلا يتوصل أي منها إلى الانفراد بالسلطة والتغلب على الآخرين إلا بالقتال وإراقة الدماء، وهو ما فرّ منه الفقهاء حينما أجازوا ولاية المتغلب على مضض؛ قال في “الفتح”: “أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب لما في ذلك من حقن الدماء”، وفي “تحفة المحتاج في شرح المنهاج”: “المتغلب يصير كالحاكم لدفع المفاسد المتولدة بالفتن لمخالفته”. فكيف إذا كان التغلب هو السبب في الفتن أصلاً؟ وكيف لو كان التغلب سبباً في إراقة الدماء لا في حقنها كما ظن الحافظ ابن حجر رحمه الله؟
لقد قبل فقهاء العصور القديمة هذا الأسلوب خروجاً من شر أكبر، وهو الاقتتال والفتنة كما قالوا، ولكن التاريخ يقول إنهم أخطؤوا خطأ فاحشاً، بل إنهم ارتكبوا خطيئة في حق الأمة، لأن الصراع على السلطة والنفوذ صار أمراً سائغاً ما دامت مكافأة المنتصر المتغلب هي تكريس ولايته على الأمة، وبسبب إجازة إمامة المتغلب تحول الحكم في أكثر العصور الإسلامية إلى مُلك جبري. وفي الحقيقة فإن تاريخنا يقول إننا عشنا لأزمنة طويلة طويلة تحت حكم الانقلابات العسكرية، إلا أنهم لم يسمّوها كذلك، ولكن ما أهمية التسمية؟ هذه الحلقة الشريرة لا يمكن كسرها إلا بنقض ذلك الحكم الفقهي الجائر ومحوه من كتب الفقه إلى الأبد، وهو ما أرجوه من علماء الوقت ومجتهديه الكبار.
إن الشعب السوري الذي ثار على طاغية العصر من حقه أن يعيش حراً وأن لا ينتقل من متغلب إلى آخر، فلا مزيد من حكم العسكر؛ لا حكمَ عسكرياً بعد اليوم، لا لتسلّط القوة وأهل السلاح على جمهور الأمة، ونعم للمنهج الراشدي الذي منح أفراد الأمة الحق في التصويت والاختيار، نعم لحرية الشعب السوري (وسائر الشعوب المسلمة) ولإرادتها المستقلّة، ولحقّها في اختيار حكامها والمشاركة بالرأي والقرار.