في المقالة الماضية (لا تنفّروهم من الإسلام) قلت إن الوقت الآن وقت الدعوة وليس وقت الدولة، فلامَني بعض الأحبة وقالوا إن المسلم مكلف بالحكم بالشرع عند المقدرة، وإن المقدرة حاصلة الآن بما في أيدي المجاهدين من قوة وشَوكة، فلا يجوز تأخير إقامة حكم الله في الأرض التي خلصت لهم وفي المناطق التي سيطروا عليها في سوريا. أشكر كل من انتقدني نقداً موضوعياً رفيقاً، وأكِلُ إلى الله مَن اتهمني بفساد الاعتقاد أو برقّة الدين، وأقول جواباً للفريقين: يجب على كل مسلم أن يكون هدفه الأسمى هو سيادة دين الله في الأرض، لا شك في ذلك، ويجب على كل مسلم أيضاً أن لا يكتفي بالتمنيات والأحلام بل يسعى لتحقيق هذا الهدف العظيم بقدر طاقته. ولكنّ الهدف الذي لا يوضَع لبلوغه تصوّرٌ ولا تخدمه خطة ليس هدفاً؛ قل ما شئت: أنا أريد أن أمتلك أجمل بيت في الدنيا، ثم لا تضَعْ لعمارته رسماً ولا لإنشائه ميزانية، وسيبقى هدفك شيئاً بين الأحلام والأوهام. مشكلة الذين يقولون إن دولة الإسلام مطلب فوري في سوريا هي أنهم لا يضعون أي تصور عملي لتحقيق رؤيتهم سوى أن يحكم المجاهدون بالإسلام في المناطق التي يسيطرون عليها، فيرفعون راية إسلامية ويُصدرون قوانين تَفرض على الناس الالتزامَ بالأحكام الشرعية. لكنهم لا ينتبهون إلى حقيقة مؤلمة هي من ثمرات الأمر الواقع: إن هذا التصور النظري المبسط يعني أن سوريا لن تصبح دولة إسلامية، بل ستتحول إلى عشرات الدول الإسلامية الافتراضية، إن لم يكن إلى مئات! إذا أردنا الحكم على أمر بالصلاح أو الفساد فعلينا تعميمه، وإذا عمّمنا رأي القائلين بتقديم الدولة والحكم على الدعوة والإصلاح فسوف نجد أن كل كتيبة (أو مجموعة كتائب متقاربة) ستنشئ “سلطة عسكرية سياسية” في منطقة نفوذها، وهذه السلطة هي صورة بدائية مبسّطة من أشكال الكيانات التي تُسمَّى دولاً. إذن سوف تتعدد الدول بتعدد الكتائب والجماعات، وبما أن أحداً لم يستطع جمع الكتائب في كيان واحد فإن أحداً لن يستطيع توحيد تلك “الدول الإسلامية” في دولة واحدة، وسوف نكتشف سريعاً أنه لا سبيل إلى تحقيق تلك الغاية والوصول إلى “دولة سورية إسلامية واحدة” إلا بالاقتتال، فلا يزال بعضها يصفّي بعضاً حتى ينتهي الأمر إلى الفرقة الفائزة فتصبح هي المسيطرة على سوريا ويصبح قائدها هو حاكم سوريا الجديد. الخبر المرعب هنا هو أن الاقتتال يُعتبَر في نظر “بعض” من يحملون السلاح اليوم أمراً مشروعاً تحت غطاء فتوى “التغلّب” التي نقدتها في مقالة سابقة، وهذا المنهج كارثي، لأن طريق التغلب العسكري محفوف بثلاث سيئات كبرى، كل واحدة منها شَرٌّ من الأخريات: يسبب الكثير من الموت والدمار، ويأتي بالأقوى وليس بالأصلح، ويفتح باب الملك الجبري وحكم الاستبداد، لأن المتغلب يستبد بقوته وشوكته فلا يتنازل لغيره ولا يتخلى عن السلطة حتى الموت، بل ربما نقلها لورثته من بعده. ما أكثرَ الطامحين والمغامرين الذين تلدهم الحروب، وكل منهم يتوق إلى النفوذ والسلطان، ولا سيما مَن جرّبه وعرف لَذّته وتمتع بثمراته! أرأيتم إلى السيسي الذي وثب على السلطة في مصر؟ إن في كل مجتمع سيسيات كثيرين، وعندنا منهم اليوم في سوريا مئات بلا شك، فإذا لم نغلق هذا الباب إغلاقاً محكماً جاءنا منه إعصارٌ تسوناميّ سيدمر سوريا دماراً لم نَرَ مثله حتى في معركتنا مع سفاح العصر بشار الأسد، وسوف ينظر إلينا إخواننا في الصومال -لا قدّر الله- فيقولون: كنا نظن أننا في شر حال حتى رأينا ما صنع السوريون بعضهم ببعض، فعلمنا أننا بخير! أكرر: لا قدّر الله. ما البديل؟ البديل هو الاعتماد على الانتخاب العام بعد التحرير، فيختار الناس ممثليهم (نوّابهم) ثم يختار النواب حكومة لحكم البلاد. الطريق الآمن الوحيد هو اللجوء إلى صناديق الاقتراع، وكلما كان الناس أكثر وعياً وصلاحاً وتديناً كلما كانت مجالسهم النيابية وكانت حكوماتهم أقربَ إلى الدين والصلاح. من هنا فإنني أدعو دوماً إلى عدم فرض التدين على الناس بقوة السلاح، وإلى الاعتماد على الدعوة التي أجدها أهم المهمّات بعد تحرير الأرض. وليس يُشترَط للدعوة أن يقوم بها أعلم العلماء بل يكفي أن يُعلّم كل مَن عَلِم مَن لم يَعلم، وأن يكون الأصل فيها الرفق واللين والإقناع ومخاطبة القلوب والعقول وليس قهرَ الجوارح والأبدان. الخبر الجيد في هذا المقام هو الآتي: عندما يُحْسن المجاهدون إلى الناس ويترفقون بهم ويوفرون لهم الأمن ولا يتدخلون في حياتهم الخاصة فإنهم سيحوزون ثقتهم ويكسبون قلوبهم، فإذا وصلنا إلى مرحلة الانتخابات بعد التحرير فهل سينتخب الناسُ غيرَهم؟ لن يقدّموا عليهم أحداً سواهم. وإذن فإنهم سوف ينتخبونهم، فيصلون إلى مراكز التأثير في البلاد بدعم الناس ومحبتهم لا بقمعهم، يصلون بقوة الكلمة الطيّبة لا بقوة السلاح. وهنا أجدني مضطراً إلى ذكر كلمة صغيرة عن الانتخاب العام، على أن أعود إلى هذا الموضوع المهم في وقت لاحق بتفصيل أكبر إن شاء الله. إن من الناس من يتوهّم أن الانتخاب يتعارض مع الشريعة، وربما بالغ فرآه كفراً وخروجاً عن الإسلام، حتى إني قرأت من قريب جملة غريبة قال صاحبها: “ما بال أقوام بلحى، دكاترة بالفقه والشريعة، يقاتلون من أجل صناديق الاقتراع؟ هل طال عليهم الأمد أم أُشربت قلوبهم حب عجل الديمقراطية؟” لا أقول إلا: حسبنا الله في قوم يتألّون عليه ويحرّمون الحلال بغير علم ولا دليل. لأمثالهم سقت في المقالة الماضية ما كتبه العلاّمة الشنقيطي في تفسير قوله تعالى {قُلْ إنّما حَرّم ربيَ الفواحش… وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وما كتبه القرطبي في تفسير قوله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرام}. أمَا إن مَن يحرّم صناديق الاقتراع لا يخرج عن وصف الآيتين، فهو إنما يتقوّل على الله بلا علم ويحرّم الحلال بلا دليل. إن الانتخاب هو اختيارُ عامةِ الناس ممثّلين يمثّلونهم وينوبون عنهم في إيصال آرائهم وبحث قضاياهم وضمان مصالحهم عند السلطة التنفيذية، أي الحكومة، ولذلك سُمّوا نواباً وسمي مجلسهم “مجلس النوّاب” (أو “مجلس الشعب” لأن النواب يَنوبون عن عامة الشعب). هذه المسألة تدخل في باب “المصالح المرسلة” والأصل فيها الإباحة، فعلى من حَرّمها أن يأتي بالدليل وليس العكس. وإنا لنجد بالتفكير والتجربة والاستقراء أن هذه الآليّة هي أفضل ما يمكن اعتماده لاختيار وجوه الناس وأعيانهم الذين يمثلون عامتهم، وهي تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: {ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن} (أخرجه أحمد موقوفاً على ابن مسعود بإسناد حسن). الخلاصة: نحن نريد في سوريا دولة الإسلام وسوف نسعى إليها بكل ما نستطيع، ولكننا نريدها دولة مسلمين أحرار يحبون الإسلام ويعيشون بالإسلام ويدافعون عن الإسلام ويَدْعون إلى الإسلام، لا دولة عبيد مقهورين مجبَرين على الإسلام بقوة السلاح والسلطان، وليس لنا لبلوغ تلك الغاية العظيمة إلا تألّف الناس ودعوة الناس وتعليم الناس وإقناع الناس. وأكرر كلمة قلتها من قبل: إن هذا هو طريق الأنبياء والمرسلين.