ارتكب المجرمون المجزرة، وعلى الفور انتشرت في طول الإنترنت وعرضه حُمّى الدعوة إلى حمل السلاح، يقولون: فشلت الانتخابات، وفشلت الاعتصامات، ولم يبقَ إلا السلاح!
ليس بعد يا أحرار مصر، ليس بعد! إن دروس التاريخ لا تهمس في آذان الناس ولكنها تصرخ صراخاً يشقق الجبال، فمن أصغى ووعى نجا، ومن أعرض وكرر أخطاء السالفين ندم حيث لا ينفع الندم. لقد مَرّ زمان لم نهتدِ فيه إلى أدوات المقاومة السلمية ولم نعرف قوة الجماهير، لم نعرف إلا قوة السلاح، فلجأنا إليه مضطرين، جرّبناه في الجزائر في ظروف تشبه الظروف التي تمر بها مصرُ اليوم، فما أورثَنا إلا دماراً ودماء وكوارث طامّات، ثم لم يوصلنا إلى شيء.
تقول دروس التاريخ إن استعجال حمل السلاح يحرق الثورة ويفرّق عنها أكثرَ جمهورها، أما السلمية فإنها تجمع وتؤلف، لأن الثورة المسلحة حركة انتقائية لا يستطيع حمل أعبائها إلا القلة القليلة من الناس، أما الثورة السلمية فإنها تسع الجميع، فمن شاء خرج بمظاهرة ومن شاء اعتصم مع المتعصمين، وربما اقتصر على كلمة يقولها أو كلمة يكتبها، وقد يساهم بإضراب أو مقاطعة أو عصيان… ويجتمع الواحد مع الواحد حتى يغدو جيش الحق ملايين. ثم إن الثمن الذي يدفعه الشعب في حالة الثورة المسلحة كبير كبير، والعرب تقول في أمثالها إن الكَيّ آخرُ العلاج لا أوّله، فإن العاقل لا يلجأ إلى الحل الأصعب إلا بعد أن يستنفد كل البدائل والخيارات.
لقد ثبت إخوانكم السوريون على سلميتهم لأكثر من نصف عام، حتى لم يبقَ إلى المثابرة عليها سبيل لأن نظام الاحتلال المجرم في سوريا فتح أبواب الفناء التي كادت تنهي الثورة كلها، بالاغتيال والاعتقال والتعذيب والاغتصاب والملاحقة والتشريد. وإن عقلاء الثورة السورية كلهم ليُجمعون اليوم (أو يكادون يُجمعون) على أن السلمية التي بدأت بها الثورة وصبرت عليها نصفَ عام هي التي وسّعت جمهورها ونشرت حراكها، وأنه لولا السلمية لما عاشت الثورة ولاستطاع النظام القضاء عليها في أسابيع معدودة أو في أشهر قليلة.
يا أحرار مصر: اعلموا أن الثورة ليست اعتصامات ولا مظاهرات، إنما هذه صور للتعبير عن الثورة. الثورة في حقيقتها هي إرادةُ التغيير والإصرارُ عليه والتضحية في سبيله، الثورة تستقر أولاً فكرةً في عقول الناس ثم تفيض مشاعرَ وانفعالات في النفوس، فإذا استقرت قناعةً في العقل وانفعالاً في النفس عبّرت عنها الجوارح بالعمل: بالاعتصام والتظاهر والهتاف والكتابة والإضراب والعصيان… فما من باب يُغلق إلا وستجدون أبواباً سواه تستطيعون فتحها، فإذا أُغلقت الأبواب جميعاً ذات يوم ولم يبقَ من سبيل إلا السلاح فلن يلومكم على حمله يومئذ أحد، ولن تندموا بعدئذ لأنكم حملتموه، لأنكم ستقفون في ذلك اليوم على مفترقٍ ليس فيه إلا طريقان: العسكرة أو الاستسلام، ولن يطالبكم بالاستسلام إلا عميل أو أحمق أو جبان.
لم تنتهِ المعركة يا أحرار مصر، بل هي لمّا تكد تبدأ، إنما انتهت الجولة الأولى، ولم تخسروها، بل لقد ربحتموها بجدارة: صبرتم على الصعاب وثبتّم ثبات الجبال، وها قد ذهب الشهداء إلى ربهم فائزين مكرَّمين، وبقي مَن بقي وراءهم ليكملوا الطريق.
اليوم بدأت الجولة الثانية، وهي الاختبار الحقيقي لقوتكم وصبركم يا أيها الأحرار. دونكم الشوارع والساحات والميادين: إنْ فَضّوا اليوم اعتصاماً فابدؤوا من الغد بغيره، وإن أغلقوا دونكم الساحات فلن يستطيعوا إغلاق الشوارع، اخرجوا إلى الشوارع بالمظاهرات وأسمعوا العالم هتافات الغضب والرفض والصمود والإصرار، وإن في مصر من الشوارع ما يتسع للملايين. وإذا لم يُجْدِ ذلك كله فعليكم بالسلاح الأخير الخطير الذي عجزنا عن استعماله في سوريا للأسف الشديد: العصيان المدني، ولو أنكم أحسنتم استعماله فسوف يزلزل الأرض تحت أقدام الظالمين.
لقد كانت رابعة والنهضة ميادين للثورة والاعتصام، واليومَ مصرُ كلها أرضُ ثورة ومصر كلها ميدانُ اعتصام.