إذا انتشر السلاح في أيدي الناس ولم تجمعهم جامعةٌ واحدة تنظّم أمرَهم وتضع لهم القوانين فلا مفرّ من الوقوع في هاوية “فوضى السلاح”، وإنها لَهاوية بعيدة القرار. جرّبَها غيرنا فدفع للخروج منها الثمنَ الثمين ولبث يتجرع مُرّها العددَ من السنين، فاحذروها؛ إياكم والوقوع فيها فإنكم إذا وقعتم فيها لا تعرفون كم تدفعون ولا تعرفون متى تخرجون.
إن الوقاية خيرٌ من العلاج كما يقول العارفون، فاعتبروا بمن مضى ولا تكرروا المأساة، واعلموا أنه كلما مرّ يوم والسلاحُ في أيدي الناس المتفرقين زادت صعوبة اجتماع كلمتهم وتوحيد سلاحهم، فاجعلوا -يا عقلاء الأمة- هذه المسألة من أهم المهمات ومن أوجب الواجبات، وليَسْعَ فيها أهلُ الرأي والجاه وأهل العلم والدين وأهل القوة والسلاح، كلٌ بقدر نفوذه وطاقته.
إننا نسمع منذ بعض الوقت عن حوادث جِسام يمكن لواحدة منها أن تلوّث الثورة كما تلوث نقطةُ الحبر بياضَ الثوب، أو تفسدها كما تفسد قطرة النفط برميل الحليب، فكيف لو اجتمعت إلى الحادثة حوادثُ وصار هذا النوع من الممارسات والمخالفات منهجاً عاماً لا سمح الله: مسلّح يسلب الآمنين؟ أو يستولي على سيارة مواطن بريء؟ أو يحتل بيتاً هجره ساكنوه؟ أو يخطف شخصاً ويشترط لإطلاقه فديةً من مال؟ وشرٌ من ذلك كله أن يرفع مسلّحٌ سلاحَه في وجه رفيقه أو يهدده برفع السلاح!
أما سمع بقول النبي عليه الصلاة والسلام: “من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه”، وقوله: “من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه”؟
لقد نُهي المسلم أن يشهر سلاحه على المسلم مهما يكن السبب، حتى ولو كان مازحاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: “لا يشيرُ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدُكم لعل الشيطان ينزِغ في يده فيقع في حفرة من النار”. وإذا حمل المسلم السلاحَ وتنقل به فإن عليه أن يحتاط ويوجهه بعيداً عن المسلمين لئلا يؤذيهم سهواً بلا قصد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مرّ أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نَبْل فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها”. أرأيتم كيف يكررها ثلاثاً، وليس ذلك إلا لشدّة أهميتها وخطورة نتائجها؟ وفي رواية: “فليمسك على نصالها بكفّه”، أو قال: “ليقبض على نصالها أن يصيبَ أحداً من المسلمين منها بشيء”.
إذا حمل السلاحَ من لم يتعلم الانضباط ولم يتخلّق بأخلاق السلاح فإنه لا يُؤمَن أن يستعمله في غير حق: أن يعتدي على شخص بريء، أو ينتقم من خصم قديم، أو يستولي على ما ليس له… وقد يقع الخلاف بين رفاق السلاح فلا يجدون لحله أقربَ وأهون من السلاح، فيرتدّ سلاحُنا عن عدونا إلى صدورنا، وننتقل من بلاءٍ يقتل فيه العدوّ أبناءنا إلى بلاءٍ هو شرٌ منه، يقتل فيه أولادُنا بعضُهم بعضاً لا قدّر الله.
إن الطغيان لا يعرف الحق والعدل ولا يفرّق بين قريب وبعيد، وهو ممارسة تبدأ داخل النفس قبل أن تظهر في أعمال الجوارح. ولا يكاد يوجد طغيان إلا مع قوة، فإنّ مَن استغنى بقوّته عن الناس طغى، أليس ربنا تبارك وتعالى يقول: {كلا إن الإنسان لَيطغى أن رآه استغنى}؟ أي رأى نفسه استغنى. والاستغناء يكون بامتلاك القوة المادية من مال وسلاح، أو المعنوية من جاه وسلطان.
تذكّروا دائماً هذه القاعدة: “إن القوة تُطغي”، لا يكاد يَسلم من هذا المصير أحدٌ من الناس إلا الصدّيقون. وليس يَزَعُ النفسَ أن تطغى إلا وازعان، وازعٌ من داخلها ووازع من خارجها، فأما الذي من داخلها فمجاهدتها وتخويفها من الله وتهذيبها بالعبادات والطاعات، وأما الذي من خارجها فليس سوى القانون الذي يضبط ويضع الحدود، وقوة القانون التي تحاسب المعتدي وتمنعه من العدوان.
حينما كنت شاباً في الجامعة جاءنا مدرب كوري أسلم وتسمّى باسم عربي (عبد القوي رو)، وأنشأ فريقاً لتعليم التايكوندو، فصحبته أربع سنين وتدرجت في الأحزمة وصولاً إلى الحزام الأسود من الدرجة الأولى، وكان هو يحمل الحزام الأسود دان 6 (الدرجة السادسة، من أصل تسع درجات). كان يعلمنا الحركات والقتال ويعلمنا معها الانضباط والتواضع، فيمنع أيّ واحد من إظهار مهارته أو التباهي بقوته أمام الناس، ولو وصل التهور بأي متدرّب إلى استعمال قدرته القتالية في مكان عام -خارج ساحة التدريب- أو ضد شخص عادي من العامة فإن الجزاءَ حاسمٌ ولا يمكن التراجع عنه: الفصل النهائي من الفريق.
إن الذين يحملون الأحزمة السوداء في الرياضات القتالية في العالم يُعَدّون بعشرات الملايين، ولكن من النادر أو من أندر النادر أن يُسمَع عن أحد منهم اشتبك مع شخص من العامة بقتال، بل يكاد يكون ذلك من المستحيلات، وحتى لو حصلت حادثة من هذا النوع فلا بد أن تكون حالةَ دفاع عن شخص ضعيف. إنهم يُلَقّنون الصبر وضبط النفس كما يُلَقّنون الحركات الفنية والمهارات القتالية، وهم يعلمون أنهم “أدوات قتل متنقلة”، حيث يمكن لأحدهم أن يقتل غيره بلا سلاح سوى يديه.
كل من حمل سلاحاً قاتلاً عليه أن يتخلق بمثل تلك الأخلاق قبل أن يحمل السلاح، بل ينبغي أن يكون الأقوياء جميعاً على تلك الدرجة العالية من الانضباط، ولو لم يكونوا كذلك لصارت الدنيا غابة يفترس فيها الأقوياء الضعفاء.
الضمان الأكبر، وقد يكون الوحيد، من الوصول إلى هذه النهاية المؤلمة هو أن نبدأ بداية صحيحة؛ أن لا يحمل السلاحَ إلا من ينتمي إلى جماعة السلاح الرسمية، وهي الجيش الحر، فإن هذه الجماعة ستهتم -كأي مؤسسة عسكرية- بتدريب المقاتلين على استعمال السلاح وعلى آداب وأخلاق وقوانين حمل السلاح. وسوف تهتم بوضع الضوابط وتطبيق القوانين بحيث يصبح من المستحيل أو من شبه المستحيل أن يتفلّت أي عضو من أعضائها أو يتجاوز الحدود، لأنها سوف تضبطه وتعاقبه، وبحيث يصبح من المستحيل أو من شبه المستحيل أن يندسّ فيها من ليس منها ومن لا يؤمن بقوانينها ويلتزم بها، لأنها سوف تَلفظه وتُخرجه، وبحيث يصبح من المستحيل أو من شبه المستحيل أن يوجد في مناطقها من يحمل السلاح للاعتداء على الآمنين، لأنها سوف تمنعه وتلاحقه.
لقد أنذرتكم، وإنما أنا نذير ليس لي من الأمر شيء؛ عالجوا هذا الأمر اليوم ولا تتركوه حتى يستفحل ويستعصي على العلاج، إياكم أن تتهاونوا أو تتأخّروا فتفلت الأمور وتسود بيننا فوضى السلاح لا سمح الله. إني أحذّركم يوماً يأتي على الناس يقولون فيه: ألا ليت عهد الأسود يعود! إياكم أن توصلوا الناس إلى نطق هذه الكلمة، لو فعلتم وفعلوا فلن يسامحكم الناس ولن يسامحكم التاريخ. هذا نداء لكل عاقل ولكل شخص حمل السلاح، أرجو أن يُسمَع وأن يُعمَل به قبل فوات الأوان. اللهمّ إني قد بلّغت.