كان ينبغي أن تأتي هذه المقالة في عقب مقالة “الجيش الوطني: عدو الوطن الجديد”، ولكن مصر شغلت القلب والقلم، فإن المسلمين جسد واحد هَمّه واحد وألمه واحد ومصيره واحد، وليست تنفصل مأساة سوريا عن مأساة مصر إلا لو انفصل بعضُ جسدِ المرء عن بعض.
حسناً، لقد اعترفت في المقالة السابقة بأن “أمراء الحرب” صاروا في سوريا ظاهرة حقيقية وصاروا مشكلة من أسوأ المشكلات، فإن رئيس ما يسمى “الائتلاف الوطني” عندما تعلل بهم لإنشاء “جيش الصحوات” لم يتعلل بباطل بل بحق، ولكنه حق أُريدَ به باطل. والسؤال الذي يهمنا جوابه هو: ماذا ينبغي أن نفعل بهذه المشكلة؟
البعض يقترحون تأجيل حلها والتفرغ لقتال العدو الرئيسي، نظام الاحتلال الأسدي الطائفي، وآخرون يقولون: بل إن تقديم قتال أولئك “الأمراء” المخربين واستئصال تلك العصابات المُفسدة أَولى وأهم. وأنا مع الفريق الثاني.
لقد سكتنا عن تلك الظاهرة يوم كانت صغيرة في أولها فكبرت واستَشْرت وتمكنت، ولو تركناها مزيداً من الوقت فقد يأتي يوم نفقد فيه القدرة على علاجها، وإنّ علاجَها مقدَّمٌ على علاج مشكلة الاحتلال الأسدي نفسها. لماذا؟ لثلاثة أسباب على الأقل:
أولها أن تلك “العصابات” حولت حياة الناس في كثير من مناطق سوريا إلى جحيم، حتى صار كثيرون يتمنَّون عودة النظام إلى مناطقهم للتخلص من شرها! لو شئتُ لسمّيت المناطق التي تعاني من تلك المشكلة الخطيرة، ولكني أُمسك عن ذكرها حتى لا أسيء إلى الكتائب والجماعات الصالحة التي تعيش في المناطق ذاتها، فقد اختلط الصالح بالطالح حتى صارت سمعة جيش الثورة في بعض المناطق أسوأ من سمعة جيش النظام!
السبب الثاني: تلك العصابات (التي تتحرك باسم الجيش الحر وتتسمى بأسماء برّاقة مُوهِمة) صارت عائقاً يعوق وصول الدعم إلى المجاهدين الصالحين الأخيار، فإن كثيراً من الداعمين باتوا يُحْجمون عن تمويل مناطق بأعيانها لأنها صارت موبوءة بهم، فيخشى صاحب الدعم أن يصل دعمه إلى الأيادي القذرة لا إلى الأيادي النظيفة، فيترك تلك المنطقة جملة واحدة ويذهب يبحث عن غيرها من المناطق التي لم تتلوث بتلك العصابات. عندئذ تزداد الكتائب الصالحة ضعفاً وتزداد الكتائب الطالحة قوة، ومع الوقت تنتقل المنطقة كلها إلى احتلال جديد يحل فيه أمراء الحرب الجدد محلّ النظام القديم.
السبب الثالث: صارت تلك العصابات أخيراً عقبة حقيقية في طريق النصر، لأن كثيراً منها يصطدم مع الكتائب الصالحة ويستهلك قُواها في معارك جانبية، ومنها من يتحالف مع النظام ويفتح له ممرات يلتفّ عبرها فيهاجم المجاهدين من وراء ظهورهم، وقد تكررت هذه المآسي في أكثر من منطقة، فإن “أمراء الحرب” الفاسدين لا يقاتلون إلا من أجل المال والغنائم، فإذا جاءهم المال من النظام باعوا من أجله إخوانهم في الجبهات ولا يبالون.
ثم إن كثيراً من تلك العصابات مرهونة لممولين مرتبطين بأجهزة المخابرات الأجنبية التي تريد تطويع الجهاد السوري وإجهاض الثورة بخطط ومؤامرات خبيثة، وقد صار واضحاً أن أجهزة المخابرات المذكورة تستعين بتلك العصابات وأنها قد اشترت مجموعة كبيرة من أمراء الحرب وسَخّرتها في حرب المجاهدين الحقيقيين، وها قد رأينا بعض آثارها الخبيثة في معركتَي حمص والساحل، حيث استمرت لشهور طويلة تعوق معركة تحرير حمص وتساهم في تثبيت خطوط التماس وتمنع تقدم المجاهدين عبر بعض الجبهات الحيوية، ثم كشفت سَوأتها تماماً في معركة الساحل (التي قلبت الموازين وأربكت حسابات أعداء الثورة) فرأينا تلك العصابات التي تزعم أنها من الجيش الحر، رأيناها تقطع طرق إمدادات المجاهدين المتوجهة إلى جبهة الساحل من حلب وإدلب، فإذا جاءت إمدادات للنظام انسحبت وتركت لها حرية المرور والعبور بلا مضايقات!
في الشهر الأول من العام الماضي، أي قبل تسعة عشر شهراً، نشرتُ خمس مقالات ضمن سلسلة سمّيتها “العمل المسلّح: الوَحدة أو إجهاض الثورة”، حذرت فيها من التفرق وفوضى السلاح، وكانت الثالثة منها بعنوان “أخلاق السلاح قبل حمل السلاح”، قلت في آخرها:
“لقد أنذرتكم، وإنما أنا نذير ليس لي من الأمر شيء؛ عالجوا هذا الأمر اليوم ولا تتركوه حتى يستفحل ويستعصي على العلاج، إياكم أن تتهاونوا أو تتأخّروا فتفلت الأمور وتسود بيننا فوضى السلاح لا سمح الله. إني أحذّركم يوماً يأتي على الناس يقولون فيه: ألا ليت عهد الأسود يعود! إياكم أن توصلوا الناس إلى نطق هذه الكلمة، لو فعلتم وفعلوا فلن يسامحكم الناس ولن يسامحكم التاريخ. هذا نداء لكل عاقل ولكل شخص حمل السلاح، أرجو أن يُسمَع وأن يُعمَل به قبل فوات الأوان. اللهمّ إني قد بلّغت.”
أخلاق السلاح قبل حمل السلاح
لقد ناديت فلم يصل النداء، فإن صوتي ضعيف وقرّائي قليلون، وها أنا أكرر اليوم النداء والرجاء بعد أكثر من سنة ونصف سنة عسى أن يصل إلى من لم يصل إليه أولَ مرة: لا توصلوا الناس إلى نطق تلك الكلمة.
هذه الوصيّة ليست موجهة إلى عامة الناس بل إلى كتائب وجماعات الثورة، وأخص من بينها بالنداء الجبهة الإسلامية لتحرير سوريا وجبهة تحرير سوريا الإسلامية. تقولون: وماذا نصنع؟ الجواب: لقد صار اجتماعكم في كيان واحد فريضة شرعية، فإنكم لن تستطيعوا مواجهة المؤامرة الكبرى التي تحاك لكم ولسوريا فُرادى مشتَّتين.
فإنْ أعجزكم الاتحادُ الكامل في كيان واحد فلا أقلَّ من الاجتماع في هيئة تنسيقية عامة، ولا بد من إنشاء جهازين لا غنى عنهما في كل منطقة: “غرفة عمليات مشتركة” لإدارة العمليات العسكرية، تضم كل الكتائب والجماعات العاملة في المنطقة، وقوّة ردع مستقلة تنشأ من اجتماع مقاتلين منتخَبين من تلك الكتائب، يمكن أن تسمى “كتيبة الأمن العام” أو “كتيبة حفظ النظام” (أو أي اسم آخر، فلا مشاحّة في الاصطلاح) تتخصص في حماية المدنيين وحفظ الأمن في المناطق المحررة، وفي ملاحقة كتائب اللصوص وقطّاع الطرق وعصابات المفسدين.
لقد آن الأوان لتصحيح مسار المعركة؛ فليكن استئصال العصابات والقضاء على أمراء الحرب أولوية في الخطط العسكرية في سوريا كلها. آن الأوان للقضاء على سوس الثورة قبل أن يفتك بالثورة والثوار.
الخلاصة: في كل منطقة كتائب وجماعات صالحة مخلصة نظيفة، فلتتفق على الاجتماع في غرفة عمليات مشتركة لا مكان فيها للفاسدين المخربين، ثم لتتفق تلك الكتائب والجماعات على ملاحقة وتصفية العصابات الفاسدة المخربة والقضاء عليها قبل الشروع في العمليات العسكرية الكبرى ضد النظام، ولتقعّد قاعدة مهمة: أيّما كتيبة جديدة تدخل إلى المنطقة أو تنشأ فيها لا بد لها من الانضواء تحت المظلة العامة، فإما أن تكون كتيبة صالحة فتنضم إلى “غرفة العمليات المشتركة” وتصبح جزءاً من الحرب الصريحة على النظام وعلى الفساد والتخريب، أو تكون خصماً وعدواً فينبغي قتالها وتخليص الناس من شرها.
ملاحظة ختامية مهمة: لم أفرّق في هذه المقالة بين ما يسمّى جيشاً حراً وما يسمّى جماعات جهادية، فالكل فريق واحد هدفه تحرير سوريا وإسقاط النظام، وكلها يجب أن يصطف صفاً واحداً في محاربة العصابات المفسدة التي تعيش من أجل المال والمغنم فحسب، والتي تعتدي على المدنيين وتقطع الطرق وتفرض الإتاوات وتنهب الممتلكات العامة والخاصة، والتي يتعاون بعضها مع النظام ومع أعداء الثورة تعاوناً مفضوحاً ويغدر بالمجاهدين.