كتب يقول بأن قريبه محافظ على أداء الصلاة، ودفع الزكاة، وصوم رمضان، وقد أدى الحج مع أسرته مرات، وهو حافظٌ للقرآن، وزوجته محجّبة… لكنه يقف مع النظام الأسدي! فما رأي الناس فيه؟ فسألته: هل هو من عامة الناس الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وهل ينكر أعمال النظام، ولو بقلبه، وهذا أضعف الإيمان؟ فأجاب: بأنه ليس من عامة الناس، بل إنه يحتل منصباً رفيعاً في الحزب والدولة، وأنه يرى الحق مع النظام في قمع المتظاهرين وقتل الأبرياء! وأضاف بأنه متورط مع النظام لأنه عندما التحق بوظيفته كان متواضع الحال، أما الآن فهو من أصحاب الأموال والأراضي والعقارات وأسهم الشركات من خلال الفساد المستشري!
فأجبته بأن أي قاضٍ في الدنيا عندما ينظر في أي قضية مرفوعة أمامه لا ينظر إلى السلوك الشخصي للمتقاضيَين. وقد وقف الخليفة الرابع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أمام القاضي وخسر دعوى ضد يهودي، ولم يتطاول على خصمه ولا على القاضي بأنه وأنه، ولم يحوّل قضية قضائية إلى موضوع ديني، وهو الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث (أرحمُ أُمَّتِي بأُمَّتِي) فقال عنه (وأقضاهم علي). وبالتالي فإن لباس التقوى الذي يتلفَّع به قريبك لن يحوّله من إنسان مشارك في جرائم النظام إلى إنسان يجب التعاطف معه عندما ستتم محاكمة المجرمين يوماً ما. ونصحته بأن يخبره بأن المحاكم عندما لاحقت أنصار هتلر لم تغادر منهم أحداً.
إننا كثيراً ما نخلط بين حق الله وحقوق العباد. فحق الله تعالى قد يغفره الله ويسامح عليه إذا قبل توبة فاعله. أما حقوق العباد فالتوبة تستلزم رد الحقوق إليهم. ومن الحقوق ما يكون مشتركاً فيها حق الله وحقوق العباد، فالقصاص من القاتل يجتمع فيه حق الله وهو تطهير المجتمع من الجريمة، وحق أولياء المقتول بشفاء غيظهم بقتل الجاني، ولا مجال للتنازل عن هذا الحق إلا أن يعفو أصحابه.
ولقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة حقوق العباد ولو في أمر صغير. إذ لما جاءه شيء يشرب منه وكان على يمينه غلام وعلى شماله كبار أصحابه، فبعد أن شرب فإن الحق أن يعطي الإناء لمن على يمينه ليشرب، فاستأذن الغلام في أن يعطي الكبار الذين هم على شماله، لكن الغلام قال: لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحداً. فأعطاه الإناء ليشرب لأنه لم يتنازل عن حقه. وهذا في حق الدور في الشرب فكيف في حق الدماء والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لو أنَّ أهلَ السَّماءِ والأرضِ اشتَركوا في دَمِ مؤمِنٍ لأكبَّهُم اللهُ في النَّارِ).
وإن من حقوق العباد المحافظة على الضرورات الخمس: حفظ الدين، والنفْس، والنسل أو العِرض، والمال، والعقل. فما هي التي حافظ عليها النظام السوري بعد أن أفسد العقائد وأزهق الأرواح بالذبح بالسكين والقتل بالرصاص والبراميل المتفجرة والصواريخ والسلاح الكيماوي المحرّم دولياً، واغتصب الحرائر، واختلس الأموال، وأفسد العقول بالإشاعات والتضليل والشعارات الزائفة من أمثال الممانعة والمقاومة والصمود والتصدي؟
قال السائل: أليس الحاج يعود كيوم ولدته أمه؟ فقلت: يا صديقي في الحديث الصحيح (يُغفَرُ للشهيدِ كلَّ ذنبٍ إلا الدَّيْنَ). فالشهادة في سبيل الله التي هي أعلى ما يناله الإنسان لن تعفيه من قضاء ديونه، فكيف بالأموال المنهوبة؟ هل يغسلها الحج؟ ولقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يحرس الغنائم، فمات الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو في النار)، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلَّها، أي أخذها من الغنيمة قبل أن تُقسم، وهي ليست حقه بل حق الجيش كله. وتوفى رجل في خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (صلوا على صاحبكم)، فتغيرت وجوه الناس، فقال: (إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله) ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين. فمن أجل درهمين أخذهما بغير حق أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، ليكون في ذلك أبلغ زاجر.
فهذه الأحاديث تدل على تعظيم حقوق العباد، لئلا يخدع أحد نفسه فيسهم في سرقة الأموال أو في قتل البشر ثم يقول بأنه يعود من الحج كيوم ولدته أمه. ولعل أكثرنا يحفظ حديث المفلس (أتدرون من المفلسُ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، المفلسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. قال: إنَّ المفلسَ من أمتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ، وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مالَ هذا، فيأخذُ هذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أُخذ من سيئاتهم فطُرِحَ عليهِ ثم طُرِحَ في النارِ)، وحديث (لا يزالُ المؤمنُ في فسحةٍ من دينِه، ما لم يصبْ دمًا حرامًا)، وحديث (كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ مالُهُ وعِرْضُهُ ودَمُهُ).