أعرف قوماً لو كانت مفاتيح أبواب الجنة في أيديهم لأغلقوها كلها ولم يتركوا سوى كوّة صغيرة يدخل منها الناس إلى الجنة حَبْواً، منهم أولئك الذين يتعقبون المجاهدين الذين قدموا النفس والنفيس واحتملوا في صراعهم مع العدو المجرم ما تكاد تعجز عن حمل مثله الجبال، يقولون: “في أي شيء تقاتلون؟” فإن قالوا: “نقاتل من أجل الحرية والكرامة ودفع الظلم عن المظلومين” قالوا لهم: “هذه النية غير صالحة وإن متّم عليها متم ميتة جاهلية، لأن من قاتل لتحكيم شرع الله وإقامة دولة الإسلام فهو فقط الذي يقاتل في سبيل الله”.
إن القتال من أجْل إسقاط الطواغيت وتحكيم شرع الله في الحياة من أجَلّ وأعظم أهداف الجهاد، وهو أصل القتال في سبيل الله بلا ريب، ولكن هل يصحّ القول إن القتال دفعاً للظلم ودفاعاً عن الحرية والكرامة قتالٌ في غير سبيل الله؟ وما القتال في سبيل الله؟
قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله}. قال الطبري في تفسيره: “في دينه الذي هداكم إليه”. وقال في قوله تعالى: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله}: “في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده”. وفي قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}: “سبيله هو طريقه الذي أوضحه ودينه الذي شرعه لعباده؛ يقول لهم: قاتلوا في طاعتي وعلى ما شرعت لكم من ديني”.
فمن قاتل في طاعة الله ودينه فهو في سبيل الله، وحيثما تحقق العدل وتوفرت الحرية والكرامة للناس فثَمّ الأرض التي يُدعَى فيها إلى الله وترتفع فيها كلمة الله. وفي الحديث: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”، بإطلاق. وكلمة الله تعلو حيث يتحقق مراد الله من خلقه، وقد حرّمَ الله الظلم على نفسه وعلى خلقه، وخلق الناس كراماً ويريد لهم أن يعيشوا كراماً، وخلقهم أحراراً ويريد لهم أن يعيشوا عيشة الأحرار.
ثم إن ربنا -عز وتبارك- قرن القتال في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان بالقتال في سبيله فقال: {ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين؟}. قال أبو حيان في البحر: قال ابن عطية: “والآية تتناول المؤمنين والأسرى إلى يوم القيامة”.
وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمَ بالدفاع عن نفسه وحقّه وعدم مقابلة عدوان المعتدي بالاستسلام، وسمّى مَن مات في سبيل حقه شهيداً، فهل يكون شهيداً من مات ميتة جاهلية؟ في حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري (الذي أخرجه مسلم والنسائي وأحمد بألفاظ متقاربة) أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطِه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار.
وعنه صلى الله عليه وسلم: “من قُتل دون ماله فهو شهيد”، وهو حديث مشهور أخرجه الشيخان وأصحاب السنن عن جمع من الصحابة، عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود وبريدة بن الحصيب الأسلمي وسعيد بن زيد وغيرهم.
وقد ساوى النبي عليه الصلاة والسلام بين القتال والموت دفاعاً عن الدين والقتال والموت دفاعاً عن النفس والعرض والمال، وسمّى من يموت في ذلك كله شهيداً. أخرج الترمذي وأبو داود وأحمد (وصححه الألباني في صحيح الجامع وصحيح الترغيب) عن سعيد بن زيد: “من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد”. وفي لفظ النسائي: “من قاتل دون ماله فقُتل فهو شهيد، ومن قاتل دون دمه فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله فهو شهيد”، وهو أصرح في القتال دون النفس والعرض والمال، والحكم بالشهادة لمن مات في سبيل ذلك كله.
وإنّا لنجد خلاصة المسألة في هذا الحديث الجامع الذي رواه عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وسويد بن مقرن وصححه الألباني في صحيح الجامع وصحيح النسائي: “من قُتل دون مظلمته فهو شهيد”، هكذا بإطلاق، مهما تكن تلك المظلمة.
وتأملوا أيضاً حديث أبي سلالة الأسلمي: “ستكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم، يحدّثونكم فيكذبونكم، ويعملون فيسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسّنوا قبيحهم وتصدّقوا كذبهم، فأعطوهم الحق ما رضوا به، فإذا تجاوزوا فمن قُتل على ذلك فهو شهيد”. أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد والطبراني بإسناد حسن مرفوعاً، وأخرجه الديلمي بلفظ: “فقاتلوهم، فمن قُتل على ذلك فهو شهيد”. وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع.
ويشهد له حديث أم سلمة الذي أخرجه الطبراني في معجمه الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة: عن أم سلمة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينا هو يوماً قائل في بيتها وعنده رجل من أصحابه يتحدثون، إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله، كم صدقةُ كذا وكذا من التمر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا. قال الرجل: فإن فلاناً تعدّى عليّ فأخذ مني كذا وكذا من التمر، فازداد صاعاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف إذا سعى عليكم مَنْ يتعدى عليكم أشدّ من هذا التعدي؟ فخاض القوم وبهرهم الحديث، حتى قال رجل منهم: كيف يا رسول الله إذا كان رجلٌ غائبٌ عنك في إبله وماشيته وزرعه فأدّى زكاة ماله، فتعدى عليه الحق، فكيف يصنع وهو غائب عنك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أدى زكاة ماله طيّبَ النفس بها يريد بها وجه الله والدار الآخرة، فلم يُغَيّب شيئاً من ماله، فتعدى عليه الحق، فأخذ سلاحاً فقاتل فقُتل فهو شهيد.
الحق في الحديث هو عامل السلطان على الزكاة. فهذا الحديث العجيب يطلب ممّن ظلمه عاملُ الصدقات أن يدافع عن حقه، ويسمح له بأن يقاتل ظالمَه في سبيل رد الظلم، فإن مات دونه كان موته شهادة.
الخلاصة: مَن صَحّ إسلامه وصلحت نيته ولم يقاتل دفاعاً عن باطل ولا من أجل دنيا أو منفعة شخصية فهو في سبيل الله إن شاء الله، وإنّ من أفضل أبواب الجهاد نصرةَ المستضعَفين والدفاعَ عن العرض والمال والنفس ودفعَ الظلم وقتال الظالمين، فمن نصرهم ودافع عنهم ودفع ظالمهم بالسلاح فهو مجاهد بالسلاح، ومن أعانهم وأمدهم بالمال فهو مجاهد بالمال، ومن سعى على مساكينهم وأيتامهم بالإغاثة أو عالج جرحاهم وداوى مرضاهم فهو مجاهد بالجهد والعمل، ومن قُتل في شيء من ذلك كله فهو من الشهداء بإذن الله رب العالمين.