1- دعونا من الضجيج الذي أثارته المواقف والمبادرات والتصريحات المختلفة خلال الأسابيع القليلة الماضية، ولننظر إلى الصورة الكلية للصراع في سوريا. النتيجة التي سنصل إليها: لا جديد تحت الشمس. المؤشرات الحقيقية في عالم الواقع لم تختلف، وهي تشير إلى أن الأمور تسير بالاتجاه نفسه الذي كانت تسير فيه قبل الهجوم الكيماوي: إخراج الأسد من المعادلة، واعتماد الحل السياسي، وفرض “النظام السوري الجديد”.
سيخرج السفاح من المعادلة قريباً، سلماً أو حرباً، بضربات أو بغير ضربات. وإن كان الظاهر من سياق الأحداث حتى الآن أن القادم هو سلسلة ضغوط وتنازلات تتبعها ضربات، على الطريقة التي اتبعوها مع صدام حسين في العراق ولكن في وقت أقصر بكثير، عدة أشهر بدلاً من عشر سنوات.
عمّا قريب سينحسر العهد الأسدي وتخرج عائلة الأسد من تاريخ سوريا إلى الأبد؛ ليس في هذا المصير ذرة من شك بإذن الله، فما عاد الأسد يقلقنا، ولكن يقلقنا ما بعد الأسد.
2- الضربة -إن جاءت- ستنهك النظام وتمهد لإخراج السفاح الأكبر وعصابته المقربة من المعادلة، ولكن هذه النتيجة ليست هي الغاية التي يسعى إليها أصحاب الضربة. إن إسقاطه ليس هو الهدف، ولكنه خطوة لا بد منها للوصول إلى الهدف، وهو إنهاء الحرب وفرض “النظام السوري الجديد”، نظام هجين يتكون في جوهره من بقايا النظام القديم (الكتلة الأمنية العسكرية) مع قشرة من المعارضة الطيّعة التي تحافظ على مصالح الغرب في سوريا.
لقد وجب إسقاط الأسد لأنه عقبة تحول دون الوصول إلى الهدف، ولكنه ليس العقبة الوحيدة؛ ثمة عقبة أخرى أشرتُ إليها من قبل في مقالة “الضربة الأميركية: الهدف والمستهدَف”. إنها الجماعات العسكرية الثورية ذات الثقل النوعي والحجم الكبير. هذه الجماعات أكبر من أن يمكن تجاوزها وأقوى من أن يتم إخضاعها، وهي أكثر ثباتاً على مشروعها من أن يتم إقناعها واحتواؤها. في الحقيقة لو كنت أنا نفسي مكان الأميركيين وحلفائهم وأردت أن أنهي الأزمة السورية على طريقتي فسوف أقلّب كل الاحتمالات وصولاً إلى النتيجة الحتمية: هذه الجماعات هي العقبة الكبرى، ولا مناص من أحد حلين: إما أن أتنازل عن هدفي وأقبل بدولة سورية حرة مستقلة الإرادة إسلامية الهوية، أو أزيح تلك الجماعات من الطريق.
هل تظنون أنهم سيختارون الحل الأول؟ مُحال. إذن فإن الحل الثاني حتماً هو الاختيار. بقي أن نعرف: من هي تلك الجماعات التي يجب إزاحتها الطريق؟
3- لاحظت أن غالبية الذين يكتبون عن الثورة السورية من بعيد (لا سيما من غير السوريين) يتوقعون أن تتركز الضربة الأميركية على جبهة النصرة وتنظيم دولة العراق والشام باعتبار أنهما أخطر قوتين في الميدان كما يظنون، وهذا غير صحيح، لأن القيمة العسكرية للجماعتين محدودة على المستوى الإستراتيجي للمعركة، فهما مجموعتان صغيرتان جداً قياساً بالمجموعات الإسلامية الكبرى.
لقد أظهرت كتائب جبهة النصرة بأساً شديداً في مواجهة قوات الاحتلال الأسدي النصيري، وأينما وُجدت فهي الخيار المفضّل للجماعات العسكرية المختلفة في عمليات الاقتحام الصعبة، ومن ثم فإنها أقرب إلى أن تكون “قوات خاصة” (كوماندوز) ملحقة بالجيش الأساسي، فيستفيد من قوتها المتميزة وتستفيد من حجمه الكبير. أمّا أن تكون قوة مستقلة كبيرة فإنها لم تعد كذلك منذ تلقت الضربة القاسية على يد البغدادي، وقد كانت -بالتعبير العامي في سوريا- “ضربة معلم”، صنعت بالنصرة ما تعجز عن صنعه الضربات الأميركية الشديدة، فقد أفقدتها نحو ثلثَي قوتها العسكرية، ثم شغلت الثلث الباقي بمجادلات فكرية ونزاعات على الأرض، ولا أظن أن النصرة ستنجح في استعادة قوتها السابقة أبداً بعد تلك الضربة.
هذه المعلومات يجهلها المتابعون البعيدون، ولا سيما غالبية إخواننا في دول الجزيرة العربية والشمال الإفريقي الذين يظنون أن جبهة النصرة هي القوة الرئيسية في جيش الثورة، ويجهلون أيضاً أن تنظيم دولة العراق والشام ليس بذي أثر حقيقي في المعركة الكلية لأنه قليل المشاركة في العمليات القتالية، وقد صرف أكثر جهده لإقامة الحواجز والتشبث بالأرض المحررة بدلاً من التوسع في مناطق جديدة.
كل هذا قد يجهله البعيدون عن سوريا، لكن أصحاب الميدان يعرفونه جيداً، وتعرفه أيضاً أجهزة المخابرات العربية والدولية، فلست أذيع سراً بنشره اليوم.
4- لا ريب أن أي جماعة فاعلة مخلصة ستساعد على بلوغ هدف المعركة الأكبر، وهو تحرير سوريا واقتلاع النظام الحالي من الجذور، لكنه هدف كبير جداً لا تقدر عليه إلا جيوش كبيرة، لذلك قلت إن القيمة الإستراتيجية لجبهة النصرة محدودة في معركة سوريا المصيرية. فما هي الجماعات ذات الوزن العسكري الإستراتيجي؟
حالياً تتركز القوة الثورية الجهادية الضاربة في مجموعتين عملاقتين، هما الجبهة الإسلامية السورية وجبهة تحرير سوريا الإسلامية. ففيما يبلغ عدد مقاتلي النصرة والدولة معاً نحواً من عشرة آلاف فإن الجبهتين تجمعان أكثر من سبعين ألفاً، فإذا أضفنا إليهما المجموعات الجهادية الصغيرة المتناثرة في مختلف مناطق سوريا (والتي تعمل تحت مظلة الجيش الحر أو بلا أي مظلة) فإن عدد مقاتلي الفصائل الجهادية يقترب من مئة ألف. هذا هو العدد الذي أشرت إليه في مقالة “الضربة الأميركية: الهدف والمستهدف” وأثار استغراب كثيرين فطالبوني بالتوضيح.
سوف أنشر قريباً -بإذن الله- دراسة وافية عن الجماعات العسكرية المختلفة في سوريا، فقد طلب مني كثيرون أن أفعل، لذلك لن أتوسع الآن في هذه المسألة. يكفي أن أؤكد أن الكتلة العسكرية الثورية الكبرى تجتمع في الكيانين الرئيسيين اللذين أشرت إليهما، ويضمان حركة أحرار الشام (كتائب أحرار الشام وحركة الفجر الإسلامية وجماعة الطليعة الإسلامية وكتائب الإيمان المقاتلة) وألوية صقور الشام ولواء التوحيد ولواء الإسلام ولواء الحق وكتائب الفاروق وكتائب أنصار الشام ولواء الفتح ولواء الإيمان، وعشرات غيرها من الكتائب والألوية التي تنتشر في عامة مناطق سوريا.
5- هذه الكتلة هي الخزان الرئيسي للقوة الجهادية في سوريا، وهي الوحيدة القادرة على صناعة إنجازات ذات قيمة إستراتيجية في المعركة، وقد كانت هي مركز الثقل في كل العمليات الكبرى، كتحرير المدن والقواعد العسكرية والمطارات، وهي ستكون العائق الحقيقي لأي تسوية سياسية في سوريا، لا سيما إذا وفق الله الجبهتين إلى الاندماج والوحدة الكاملة. لذلك فإنني أتوقع أن تكون هي الهدف غير المعلَن للعمليات العسكرية الغربية، سواء باستهدافها استهدافاً مباشراً خلال الضربة المتوقعة، أو بعدها، باستعمال الدرونات (الطيارات ذاتية الحركة) أو السيارات المفخخة أو الاغتيال والتفجير بواسطة العملاء والجواسيس، أو غير ذلك من الأساليب والأدوات.
لكن هذه القوة الكبيرة منتشرة على كامل التراب السوري ولا يمكن القضاء عليها إلا بحرب حقيقية على الأرض قد تستمر شهوراً طويلة، أو ربما سنوات، فهل هذا الاحتمال ممكن؟
الجواب: نعم، إنه ممكن جداً. لقد أغرق المجتمع الدولي سوريا في حرب طاحنة استمرت ثلاثين شهراً، ولا يبدو أنه يمانع في مدها ثلاثين شهراً أخرى لكي يسيطر على سوريا ويعيدها إلى “بيت الطاعة”.