ختمت المقالة الماضية باستنتاج وسؤال: لن تحقق الولايات المتحدة هدفها في صناعة “النظام السوري الجديد” الذي يضمن مصالحها في سوريا إلا بالقضاء على الكتلة العسكرية الإسلامية الكبيرة. ولكنها ستشعل بذلك حرباً حقيقية على الأرض قد تستمر شهوراً طويلة، أو ربما سنوات، فهل هذا الاحتمال ممكن؟ ثم أجبت: نعم، إنه ممكن جداً، فقد أغرق المجتمع الدولي سوريا في حرب طاحنة استمرت ثلاثين شهراً، ولا يبدو أنه يمانع في مدها ثلاثين شهراً أخرى لكي يسيطر على سوريا ويعيدها إلى “بيت الطاعة”.
أكمل هنا من حيث انقطعت هناك.
6- بعد الاستقلال عاشت سوريا ثلاث سنوات في ظل حكومات وطنية انتخبها السوريون انتخاباً حراً، ثم ضربت الولايات المتحد ضربتها عندما دبّرت انقلاب حسني الزعيم، فأدخلت سوريا في نفق الحكم العسكري المظلم الذي عاشت فيه كلَّ ما تلا ذلك اليوم المشؤوم، ومن خلال العسكر سيطرت على سوريا وضمنت مصالحها فيها. هل علمتم الآن لماذا نكره أميركا ونتوجس من يدها الممدودة إلينا اليوم؟ لأننا نعلم أن اليد التي تمتد باسم المساعدة والإنقاذ هي يد الغدر والخيانة. اللهم ارزقنا ذاكرة لا تنسى.
الضربة الأميركية السابقة مضت عليها خمسٌ وستون سنة، فإذا كانت الضربة الواحدة تأتي بعشرات السنين من الاستقرار وتأمين المصالح فإنها تستحق أن تُمنَح ما ينبغي لها من الوقت والوزن والاهتمام؛ هذا هو منطق العدو الأميركي في التعامل مع الثورة السورية. إن القوة الاستعمارية الأميركية لا تبالي بأن تستمر المحنة في سوريا عدة سنوات لكي تضمن بقاءها في “بيت الطاعة” لعشرات السنوات القادمة.
إن الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ لم تُبْنَ إلا على جبال هائلة من القرابين، وهي مستعدة دوماً لتقديم المزيد في سبيل الحفاظ على الإمبراطورية. أميركا الاستعمارية فتكت بالملايين من سكان الكرة الأرضية لتدخل إلى نادي الإمبراطوريات ولكي تبقى على رأسه خلال القرن المنصرم، وهي لن تتنازل عن موقعها المسيطر على العالم بسهولة، لذلك فإن من السذاجة البالغة أن يخاطب المعارضون السوريون ضمير أميركا أو أن ينتظروا منها خيراً أو نصراً. هذا الوهم العظيم وقع فيه أكثر قادة المعارضة السياسية، ووقع فيه بعض المقاتلين أيضاً، لكن الله أراد بالثورة خيراً فبقيت الغالبية العظمى من الثوار المدنيين والعسكريين وبقي سواد السوريين في منجاة من الثقة بالعدو والتعلق بالأوهام.
7- الولايات المتحدة كانت مسؤولة في الماضي عن حروب ونزاعات مدمرة استمرت لسنوات طويلة؛ إما نزاعات كانت طرفاً مباشراً فيها، كالحربين الكورية والفيتنامية في القرن المنصرم وحربَي العراق وأفغانستان في القرن الجديد، وقد كلفت هذه الحروب الأربعة نحو خمسة ملايين قتيل، أو طرفاً غير مباشر، كالحرب العراقية الإيرانية التي سقط فيها أكثر من مليون قتيل من الجانبين. كما أنها راقبَت بصمت حروباً أخرى طاحنة ولم تتدخل فيها إلا حينما فرضت عليها مصلحتُها أن تتدخل، كالحرب الأفغانية الروسية وحرب البوسنة، فلم تتدخل إلا بعدما سقط نحو مليونين من الضحايا في الأولى ونصف مليون في الثانية، وفي بعض الحالات لم تتدخل أصلاً لأن الحرب لم تنعكس عليها بخير أو بشر، كما حصل في رواندا التي حصدت حربُها الأهلية مليونَ قتيل.
النتيجة: الولايات المتحدة (ومعها المجتمع الدولي) لم تعرف شيئاً اسمه “ضمير” في تاريخها الطويل، فهل تملك الثورةُ السورية عصا سحريةً لتوجد في سنتين ما لم تملكه أميركا في قرنين؟ ولماذا يكون الدم السوري -عندهم- أغلى من الدم العراقي والأفغاني والبشناقي أو الكوري والفيتنامي والرواندي؟ وما ألفُ ضحية قُتلوا بالسلاح الكيماوي أو مئة ألف قتلوا بغيره مقارَنةً بالملايين الذين سقطوا في تلك النزاعات والحروب، وما يزالون يسقطون؟
لا، إن مصالح الإمبراطوريات أثمن من ملايين البشر، ولسوف تمضي الولايات المتحدة إلى آخر الطريق ولو طالت المحنةُ عشرَ سنين وسقط مليون شهيد، وهذه من حقائق السياسة الاستعمارية الأميركية التي ينبغي أن تبقى في أذهاننا على الدوام.
8- لكن الولايات المتحدة ليست اللاعب الوحيد. إنها اللاعب الرئيسي بالتأكيد، غير أنها لا تتحرك إلا ومعها وصيف، كما يفعل الأباطرة الحقيقيون. في غزوها البربري للعراق لعبت بريطانيا دور الوصيف والحليف فيما بقيت فرنسا في صف المعارضة، واليوم تبدو فرنسا رأس الحربة في الحملة الدولية على سوريا فيما تكتفي بريطانيا بدور هامشي ضئيل.
هل هذا الترتيب من قبيل المصادفات؟ قبل أن تسيطر أميركا على تلك الدول بواسطة الانقلابات العسكرية كان العراق تحت النفوذ البريطاني وسوريا تحت النفوذ الفرنسي. من حقنا أن نتساءل: هل خرج الاستعمار من بلادنا في أي يوم من الأيام؟ لا يهم، هذا سؤال مضى وقته. لنرَ كيف يمكن أن يؤثر التدخل الفرنسي في الثورة السورية وفي مستقبل سوريا.
احتلت فرنسا سوريا ربع قرن، خمساً وعشرين سنة كوامل، وفوقها سنة الانسحاب. لن نتعب في فهم السياسة الفرنسية في سوريا، لن نحتاج إلى كرة البلور لقراءة المستقبل، يكفينا أن نقرأ كتب التاريخ. لقد كانت الركيزة الكبرى في السياسة الفرنسية في سوريا هي إقصاء الأغلبية السنية وتسليم مفاتيح البلاد للأقليات، ولا سيما للنصيريين. هل تغيرت فرنسا بعد كل تلك السنين وغيّرت “إستراتيجيتها الاستعمارية” في سوريا؟ ألم تتفق السياسة الاستعمارية الأميركية مع السياسة الاستعمارية الفرنسية في هذه النقطة الجوهرية على الدوام؟
9- لماذا سرّبوا في هذه الأيام الحاسمة، بعد مجزرة الغوطة وقبل الضربة الأميركية المزعومة، لماذا سربوا خبر انشقاق وزير الدفاع السابق، علي حبيب، وهروبه خارج سوريا؟ هذه ليست المرة الأولى التي ينتشر فيها اسم علي حبيب في وسائل الإعلام العالمية، إنها الثانية. المرة الأولى مضى عليها وقت طويل، سنتان كاملتان.
في الثامن من آب 2011 أصدر بشار الأسد مرسوماً بإقالة وزير الدفاع العماد علي حبيب وتعيين العماد داود راجحة مكانه. التفسير الرسمي لذلك التغيير المفاجئ ذكر أن الوزير المُقال كان مريضاً منذ بعض الوقت وقد تدهور وضعه الصحي مؤخراً. في اليوم التالي انتشرت أخبار تتحدث عن العثور على وزير الدفاع السابق ميتاً في منزله، ولكن إعلام النظام الرسمي نفى الخبر وسارع إلى إظهاره في لقطات تلفزيونية. لماذا أقيل الوزير فجأة؟ لماذا لم يسمع أحد عن مرضه من قبل؟ هل مات في ذلك اليوم فعلاً أم بقي حياً ليخرج من سوريا أخيراً كما أشيع منذ أسبوعين؟
قبل ذلك بأسبوع، في بداية آب 2011، فجّرت جريدة “نيويورك تايمز” الأميركية الرصينة والمرموقة قنبلة إعلامية، حينما نشرت مقالة تتحدث عن انقسام داخل الطائفة العلوية الحاكمة في سوريا وعن احتمال وقوع “انقلاب علوي” على الأسد. بعد عزل حبيب بيومين (10/8/2011) نشرت جريدة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية مقالة جاء فيها أن “القادة الكبار في رئاسة الأركان السورية كانوا مشغولين بالخلاف فيما بينهم أكثر مما كانوا مهتمين بقمع الانتفاضة الشعبية”، وفي اليوم نفسه نشرت الجريدة الإسرائيلية الكبيرة الأخرى “معاريف” مقالة تتحدث عن “خلاف كبير داخل البيت العلوي وصل إلى أشده بين جناحين، يخطط أحدُهما للقيام بانقلاب على نظام الأسد ويتزعمه وزير الدفاع علي حبيب”.
10- هل كان علي حبيب طرفاً في الصراع العلوي-العلوي؟ المساعد العلوي المنشق آفاق أحمد، مدير مكتب قائد العمليات الخاصة في المخابرات الجوية، أكد أنه كان ذلك. هل كانت تلك محاولةً انقلابية مبكرة دبّرتها أميركا مع حلفائها لإزاحة الأسد عن الطريق وإنهاء الثورة إنهاء ناعماً لا يغيّر خريطة المصالح والنفوذ في سوريا؟
لقد أرادت الولايات المتحدة دائماً استمرار سيطرة الطائفة العلوية النصيرية على الجيش والدولة، فهل كان علي حبيب هو الشخص الذي اختاروه بديلاً عن بشار؟ بالنظر إلى صراع النفوذ داخل الطائفة فإن الاعتماد على رجل ضعيف لن يكون مفيداً، ولا شك أن العماد علي حبيب يمثل اختياراً ذكياً للغاية لأنه ينتمي إلى عائلة علوية كبيرة وعريقة وغنية، وهي أعرق وأكبر بكثير من عائلة الأسد، ولأنه يحظى باحترام وقبول بين كبار ضباط الجيش بسبب تاريخه العسكري الطويل.
11- لا أنا ولا غيري يستطيع أن يجزم بشيء مما يجري، ولكن بضعة غرامات من الوقاية خيرٌ من أطنان من العلاج، وحذرُ ساعة خيرٌ من ندم العمر. قد يكون علي حبيب هو الشخص الذي يريدون تسليمه قيادة سوريا -سواء من أمام الستارة أو من ورائها- وقد يكون غيره، المهم عندهم أن تبقى مفاتيح سوريا في أيدي العلويين.
فيا أحرار سوريا: افتحوا أعينكم وراقبوا ما يجري وراء الكواليس، ولا تتنازلوا في هذه المسألة المصيرية ولو طالت ثورتكم عشر سنين. إذا تهاونتم فيها فسوف يأتي يوم -لا قدّر الله- تكتب فيه الصحف: “مات الأسد، عاش حبيب”! يوم نطوي فيه سجلاً أسود لتسلط عائلة من الطائفة النصيرية على سوريا لنفتح سجلاً جديداً لتسلط عائلة جديدة من الطائفة ذاتها. هل أنتم مستعدون لنصف قرن آخر من الذل والاستعباد؟