1- أكثر المربين والدعاة والمصلحين ينظرون إلى الأفعال فيجعلونها هدفاً للتغيير، فيحرصون مثلاً على حمل النساء على الحجاب أو صرف الرجال عن التدخين. ولكن “الأفعال” لا تنفصل أبداً عن “الأفكار”، أو بعبارة أخرى: “إن عالَم الأفعال ليس سوى ترجمة وامتداد لعالَم الأفكار” كما كان يقول مالك بن نبي رحمه الله. فإذا أردت التغيير الحقيقي فلا تهتم بالأفعال، بل غيّر الأفكار تتغير الأفعال تبعاً لها.
لو أن أحدنا رأى -على سبيل المثال- صبياً يعتدي على قطة أو على ولد ضعيف فسوف يزجره وينهاه، وقد يمنعه باليد فيحبسه عن العدوان. لقد نجحنا فعلاً في وقف العمل السيئ، لكننا لم تنتبه إلى أن الدافع الذي حمل الصبي على عدوانه الأول ما يزال موجوداً، وإذن فسوف يكرره مرات ومرات.
إنك تغير الفعل السيئ فتقوم بالعمل الأسهل، ولكنه حل مؤقت لا يدوم. ما الحل الأفضل؟ إنه العمل الأصعب: تغيير الفكرة أو القناعة التي دفعت الصبي إلى العدوان أصلاً، وهي فكرة (أو سلسلة أفكار) بسيطة: “القوة تصنع الحق. أنا قوي، إذن من حقي أن أصنع بالضعيف ما أشاء”. عليك أن تصحح تلك السلسلة: “القوة لا تصنع الحق ولا تغير الجواهر، فيبقى الحق حقاً ولو كان ضعيفاً والباطل باطلاً ولو كان قوياً. أنت قوي ولكن يوجد من هو أقوى منك، وعندما تجعل قوتك مسوغاً للاعتداء على من هو أضعف منك فإنك تجعل قوةَ غيرك مسوغاً للاعتداء عليك”. إذا صحح الصبي أفكاره السلبية عن القوة والحق والعدوان فسوف يمتنع عن الاعتداء على الضعفاء في تلك المرة المفردة وفي سائر الأوقات.
2- إن تغيير الأفعال عمل بسيط وساذج، سريعٌ في نتائجه لكنه قصير في عمره. تغيير الأفكار أصعب منه وأطول عمراً، لكنه ليس غاية المطاف كذلك، فما هو التغيير الأسمى الذي يدوم أثرُه وتنتشر بركته؟ إنه تغيير القِيَم، وهذا هو لب منهج التغيير الإسلامي الذي قلَّ أن يتنبّه إليه المربّون والمصلحون.
إن الإسلام لا يقول للطفل “لا تقطع ذنب الهرة الصغيرة” وللكبير “لا تأكل مال الأجير الضعيف” وللمرأة “لا تحمّلي خادمتك الضعيفة حِمْلَ أربعة من الرجال الأقوياء”… إن ديننا العظيم يبني القيم الكبرى، كالرحمة والعدل والخير والإحسان، فتستقر في عقل المسلم الواعي وفي شعوره اللاواعي وتصبح هي الأصل الذي منه ينطلق كل عمل وينبثق كل سلوك. إذا زرعنا أمثال تلك القيم الصالحة في نفس الصبي الذي اعتدى على الضعفاء -في مثالنا السابق- فلن يتوقف عن ذلك الفعل السيئ فحسب، بل إنه سيصبح هو نفسُه من جنود الخير وحرّاس الفضيلة فيمنع غيرَه من الأقوياء من الاعتداء على الضعفاء.
هذا هو التحول الأهم على الإطلاق، وهو الإصلاح الحقيقي، لأن تغيير الأفعال لا يدوم، وهو يحتاج إلى قوة رادعة من الخارج، فإذا زالت القوة زوالاً نهائياً أو غابت غياباً مؤقتاً عاد الإنسان إلى الفعل السيئ. أما القيم فإنها تبقى غالباً إلى آخر العمر، وهي تولّد فعلاً ذاتياً، أي أن المحرك للفعل الطيب سيصبح محركاً داخلياً من داخل النفس وليس محركاً خارجياً من خارجها.
عندما يُربَّى المرء على الرحمة والعدل وتُنمَّى هذه القيم حتى تستقر جذورُها في أعماق نفسه وتسيطر القناعةُ بها على منطقه وعقله فإنه لن يظلم أحداً ولن يعتدي على أحد، لأنه -لو فعل- سيقع ضحية لعقاب فظيع، هو “تأنيب الضمير” أو “لوم النفس”، وهو عقاب كاف يردع صاحبه عن القسوة والظلم والعدوان. وهنا نصل إلى تكملة مهمة لمقالة “الإصلاح بالدعوة” التي نشرتها قبل أيام.
3- قلت في تلك المقالة إن الدعوة والإقناع هما الطريق إلى الحياة الإسلامية الصحيحة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمد على الشُّرَط والحرس لفرض الإسلام على الناس، بل ربّى الإيمانَ في نفوسهم وزرع في قلوبهم خوف الله، ثم أخبرهم بما أحل الله لهم وما حرّم عليهم فاستجابوا لقانون الإسلام وكانوا هم الحرّاس على حمايته وتطبيقه. قلت ذلك فاعترض عليّ قوم وقالوا: فأين القانون وأين الثواب والعقاب؟
أنا لم أقل إن الناس يعيشون بلا قانون. إن القانون هو الذي يحفظ الحقوق وينظم الحياة ويمنع الظلم والعدوان، والقانون يحتاج إلى قوة تحميه وتمنع مخالفته، والقوة لا تعمل إلا من خلال منظومة “الثواب والعقاب”. ولكنّ سلطانَ القانون والردعَ بالعقوبات العملية هما خط الدفاع الأخير للجماعة المسلمة ولكل جماعة بشرية صالحة.
إن العقاب والثواب هما أُسّ التربية وأساسها بلا ريب، ولكنهما يصبحان مفهومَين “حيوانيين” لا مفهومين “إنسانيين” إذا نُظر إليهما بمعناهما الحسّي (البدني) المجرد، فأنتم ترون حيوانات السيرك كيف تقوم بالحركات والاستعراضات وفي يد مدربها السوط وفي جيبه قطع الحلوى، فإذا أخطأت جُلدت وإذا أحسنت مُنحت الحلوى! فكلما تجلّى العقاب في شكله الحسي كان أقربَ إلى النهج الحيواني، وكلما اعتمد المربّون على هذا الأسلوب -الآباء في البيوت والمعلّمون في المدارس- كانوا أقربَ إلى إنتاج نماذج حيوانية منهم إلى إنتاج نماذج إنسانية.
4- لا يصبح الثواب والعقاب إنسانيَّين إلا عندما ينتقل مصدرهما من العالم الخارجي إلى العالم الداخلي للإنسان، من الرادع المنفصل عن النفس (الأب والأم أو المعلم ومدير المدرسة أو الشرطي والمحكمة) إلى النفس ذاتها. هذا الرادع هو ما نعبّر عنه في كلامنا المتداوَل بكلمة “الضمير”، ويسميه علماء النفس “الذات العليا”، وهو الذي عبّر عنه القرآن بصفة “النفس اللوّامة”، والتي بلغ من أهميتها وعظمتها أن أقسم بها الله ذو العظمة والجلال (أجمع المفسرون على أن “لا أقسم” في الآية بمعنى “أقسم”، واختلفوا في تفسير “لا” على تفصيل تجدونه في كتب التفسير).
هنا تأتي مسؤولية المربين من والدِين ومعلمين، فكلما كانوا أمْيَلَ إلى القسوة ابتعد أبناؤهم وطلابهم عن الإنسانية واقتربوا من البهيمية، وكلما كانوا أقرب إلى الرحمة صار الأبناء والطلاب أقرب إلى الإنسانية وأبعد عن البهيمية. “الإنسان” السويّ -لا المخلوق الحيواني البهيمي الذي له من الإنسان صورته فحسب- هو الذي يبلغ ضميرُه من القوة أو نفسُه اللوّامة من الفاعلية درجةً تجعل الضرب والحبس أهونَ عليه من لوم النفس وتأنيب الضمير!
مثل هذا الإنسان السوي إذا اعتدى على مخلوق أو آذاه فإنه يلقى من نفسه وضميره عذاباً يفوق العذاب الذي يمكن أن يوقعه عليه القانون، وذلك النوع من العقاب أعظم من كل عقاب. وإذا أحسن إلى مخلوق فإنه يلقى من نفسه وضميره مكافأة أعظم من المال والشكر والتقدير التي يمكن أن يلقاها من الناس، وذلك النوع من الثواب أعظم من كل ثواب.
5- وهكذا نجد أن “آلة الثواب والعقاب” ما زالت تعمل، ولكنها ارتفعت وارتقت من الدّرْك الحيواني البهيمي إلى درجة سامية راقية لا يعرفها إلا أصحاب الفِطَر السوية من بني الإنسان. وهذا أمر مجرَّب محسوس؛ تذكّرْ شعورَك وأنت تقدم المساعدة والعطاء للضعفاء والمحتاجين تجدْ أنك حصلت على المكافأة الفورية، إنها مكافأة السعادة والرضا عن الذات. وبالمقابل يستطيع كل واحد منا أن يتذكر شعوره بعد اقتراف ذنب من الذنوب (ومن ذا الذي لم يقترف قَطّ ذنباً؟) وكفى بمثل هذا الشعور عقاباً لذي الحس السليم.
إن أصحاب الفِطَر الصحيحة والنفوس السوية يخضعون في أعمالهم وفي سلوكهم لتأثيرات آلة الثواب والعقاب، ولكنهما ثواب وعقاب ذاتيان لا خارجيان، نفسيان لا بدنيّان، إنسانيان لا بهيميان. وهذه الآلة المُحْكَمة تحرس منظومة من “القيم الصالحة” التي تهدينا في درب الحياة، فتقودنا إلى النجاح والسعادة في الدنيا وإلى مثلهما في الآخرة.
هذا هو المنهج الذي اتبعه النبي عليه الصلاة والسلام لإخراج “الجيل القرآني الفريد” (كما سمّاه سيد قطب رحمه الله)، وهو نفسه المنهج الذي يهدينا إليه القرآن لصناعة الجماعة المسلمة في كل عصر من العصور، ولن نجد منهجاً غيره لإصلاح سوريا والسوريين اليوم. إنه منهج إصلاح الجذور، أما تغيير الأفعال بالقوة فإنه إصلاح القشور. شتّانَ بين إصلاح القشور وإصلاح الجذور!
الخلاصة: إن التربية الجيدة هي التي تُنشئ قِيَماً صحيحة سويّة تحرسها “آلة الثواب والعقاب” الإنسانية التي فهمنا الآن طبيعة تركيبها وطبيعة عملها، وإن بناء القِيَم الصالحة هو الأساس المتين لمشروع التربية كله، وكل مشروع تربوي يعتمد على تغيير الأفعال بالقوة ويرتكز على طبقة أدنى من طبقة القيم لن يُكتَب له العمر الطويل.