المشهد السياسي يجعلك تتيه فلا تعلم إلى أين تسير الأمور. فقد حفلت الأخبار والتحليلات بقصة الضربة الرادعة للنظام لاستخدامه السلاح الكيماوي الذي قالوا منذ سنة إنه خط أحمر. ثم تحول الحديث إلى نزع هذا السلاح، فاختفى خبر الضربة العسكرية التي قيل أصلاً بأنها محدودة، مكاناً وزمناً، وتستهدف فقط شلّ قدرة الأسد على تكرار استخدام السلاح الكيماوي، وكأن الضوء الأخضر مُعطى للسلاح التقليدي الذي قضى على أكثر من مائة وخمسين ألفاً من البشر! وأن بقاء الأسد في السلطة مرغوب فيه رغم جرائمه ضد الإنسانية!. ومازال النظام يصر على أن الذي استخدم السلاح الكيماوي هم الثوار رغم الإدانة الواضحة للنظام من المجتمع الدولي. وقد تبنّت روسيا مؤازرته، فأضافت رجساً إلى خداعه وخبث سياسته. وهكذا انحصر الموضوع في نزع السلاح الكيماوي الذي قد يستغرق تسعة أشهر، أي مع نهاية السبع سنوات العجاف الثانية من حكم بشار الأسد ليقول بأنه لن يترشح مرة ثالثة، وأنه سيخرج من الرئاسة بمحض إرادته وليس ببنادق الثوار؟ في حين يستمر بمجازره الوحشية حتى ذلك الحين مما يفاقم المأساة. ومن يدري فقد يصبح نصف السكان مهجّرين إلى ذلك الوقت!
في المشهد الثوري، يظن بعض العرب والمسلمين بأن الوضع في سوريا بحاجة إلى رجال يؤازرون الثوار، لكن الحقيقة أن الوضع في سوريا لا يحتاج لرجال بقدر ما يحتاج للعتاد. فالمهاجرون والنازحون بلغوا ربع السكان، وخمسة في المائة فقط من هؤلاء يعادل ثلاثمائة ألف رجل! فما هي ضرورة دخول الآخرين الذين يعقّد وجودهم الأمور كثيراً، ويعطي مبرراً للنظام لجلب قوات خارجية لتقف مع قواته؟ وإذا كان أهل مكة أدرى بشعابها فليُترك الأمر للسوريين للقيام بواجبهم والمطالبة ببناء دولتهم على أساس من الحرية والعدالة.
ربما أفضل ما يصور المشهد الاجتماعي هو البرنامج الساخر (ثورة 3 نجوم) الذي يتناول تفاصيل الحياة اليومية في مدينة حلب بطريقة كوميدية، والذي أخذ اسمه من عدد نجوم عَلَم الاستقلال الذي تبنّته الثورة. ويتحدث البرنامج عن الواقع المأساوي وهموم الناس وتأثر نفسيات الأطفال مع القصف العشوائي والانقطاع المتواصل للكهرباء والاتصالات والمواصلات، وينتقد أخطاء المدنيين والثوار، لينشر التوعية من خلال تسليط الضوء على الخطأ، كما يبرز حلم الناس ببلد حر مستقر. وهناك ست قنوات فضائية معارضة تعرض البرنامج، كما يتم نشره عبر اليوتيوب. لكن الهدف الجميل للبرنامج لم يمنع من تعرّض مخرجه الشاب إلى محاولات اغتيال واختطاف. وفي المشهد الاجتماعي أيضاً فقد أثقل التضخم كاهل الناس، وكثير منهم عاطلون عن العمل، واعترفت وسائل الإعلام الحكومية بأن التضخم طال كل شيء، ووصل في حلب إلى 82%. في حين أن محللين مستقلين يتحدثون عن أكثر من هذا الرقم فالدولار الأمريكي يباع اليوم بحوالي 215 ليرة سورية، في حين كان بحوالي 50 ليرة قبل الثورة.
المشهد الصحي مقلق للغاية فالأطباء في المناطق المحررة يعاينون يومياً مزيداً من الإصابات والجروح بين المدنيين بسبب استمرار قوات الأسد في مهاجمتهم بمختلف أصناف الأسلحة التقليدية الفتاكة عن طريق المدافع الثقيلة وراجمات الصواريخ والغارات الجوية. والأسوأ هو تواصل قصف المستشفيات الميدانية والأطقم الطبية بشكل ممنهج لحرمان المرضى والجرحى من العلاج.
المشهد الإغاثي جرح كبير لا يندمل، ومأساة تتفاقم منذرة بعواقب سيئة، بسبب تغاضي العالم عن الكارثة الإنسانية. فهناك مشكلة لوجستية بسبب ضعف إمكانات بعض الدول المستضيفة للاجئين، إضافة لصعوبة توصيل الإعانات للنازحين في الداخل السوري. وهذا كله يؤدي إلى ارتفاع نسبة الجريمة والعنف وتمزيق الكيان المجتمعي والوحدة الوطنية. وإذا كان عدد اللاجئين والنازحين اليوم يعادل عدد سكان الأردن أو ليبيا، فمن يقدر على مواساتهم وتقديم المعونة لهم؟
ربما كان المشهد الثقافي هو الوحيد الذي استفاد بقدر ما تضرر. تضرر بسبب أن عدداً كبيراً من المعتقلين ومن الذين تمت تصفيتهم في أقبية السجون هم من المثقفين. لكنه استفاد من خلال الكم الهائل مما كُتب من أشعار وروايات عن الوضع السوري. وهناك عدد من المخرجين استطاعوا أن يجمعوا كمّاً هائلاً من الوثائق عن الثورة تكفي لإنتاج عشرات الأفلام الوثائقية التي قام بتصويرها رجل الشارع بكاميرة جواله. وقد تم إطلاق (مهرجان سوريا الحرة السينمائي) عبر الإنترنت لنقل الصورة الحقيقية للثورة إلى خارج الحدود، ولتكريم جهود الشباب الذين يعرضون حياتهم للخطر في سبيل تصوير التظاهرات وتوثيق الانتهاكات التي يمارسها النظام. ولا يقتصر العمل الفني على العمل السينمائي فهناك عدد كبير من الفنانين التشكيليين هربوا من سوريا وأقاموا معارضهم من خلال لوحاتهم التي تعكس المأساة.
سوريا مأساة القرن الحادي والعشرين، فهل نجد بصيصاً من الضوء في نهاية النفق المظلم الذي يخيم عليها؟ الأمل بالله كبير، (وما لنا غيرك يا الله).