1- تعرضَت الثورةُ السورية المباركة إلى حرب شرسة ما عرفَتها من قبلها ثورةٌ قط، فإن العالم تخلى عنها أولاً وترك عدوها ليقاتلها ويقتلها كيفما يشاء، ثم حاصرها وظاهر عدوَّها على حربها وأمَدّه بكل أسباب القوة التي عرفها الناس، فلما لم يفلح شيء من ذلك في قتلها جمع للكيد لها أخبثَ العقول وحاك لها أسوأ المؤامرات.
كان ينبغي أن تموت الثورةُ ألفَ مرة لو أن القوانين التي تعمل عملها فيها هي قوانين الأرض، ولكنها لم تَمُتْ أيّ مرة لأن القانون الذي تسير عليه هو قانون السماء، وما عقدته يد الله لن تنقضه يد بشر.
على أن إرادة الله تعمل من خلال الأسباب، وقد أخذ الشعب السوري المجاهد المصابر بكل ما يستطيعه منها. ومن هذه الأسباب النقدُ والنصح والتقويم، فإنها أكسبت الثورةَ السورية واحدةً من خصائصها العجيبة، وهي أنها صارت ثورة “ذاتية الحركة” وثورة “ذاتية التصحيح”.
2- لكي تبقى الثورة في أمان لا بدّ من الاستمرار في التقويم والنقد والنصح والتصحيح بلا كلل ولا ملل. ولكن قد تنشأ هنا شبهتان؛ الأولى قولهم أن المناصحة والنقد لا يكونان على الملأ، بل يجب أن يقدّمهما المسلم لإخوانه في السرّ حتى لا تتحول النصيحة إلى فضيحة. وهذه القاعدة صحيحة في النصيحة الخاصة لأفراد الناس المعيّنين، فلا يجوز أن أقف في وسط الطريق وأصيح بالصوت العالي: يا فلان، لقد علمت أنك ترتكب تلك المعصية وإني أنصحك بتركها! لا، هذا لا يجوز ديناً ولا يجوز مروءة، ولو أننا فضحنا مَن تكتّم على معصيته فإننا نُعين شيطانه عليه ونهوّن المعصية على غيره من الناس، وهذا ذنبٌ نُلام عليه ويحاسبنا عليه الله.
أما إذا صار الخطأ عاماً فإنه لا يعالَج إلا بالنصيحة العامة لكي يصل الصواب إلى كل من وصل إليه الخطأ، ومَن قال غير ذلك فقد أخطأ في الفهم، لأن الناس يرون الخطأ العام نهاراً جهاراً، فكيف يكون نقده خُفيةً واستتاراً؟ لو قبلنا بذلك فسوف ينتشر الخطأ بين العامة ويقتصر تصويبه على الخاصّة، فيضيع الحق ويأكله الباطل، ولو فعلنا ذلك في ثورتنا فعليها السلام.
3- الشبهة الثانية: لا يكاد أحدٌ يشير إلى أخطاء الجهاد وعثرات المجاهدين حتى يقفز في وجهه من يقول: “لا يصحّ أن يتحدث قاعد عن مجاهد، فإما أن تذهب إلى الميدان أو تلزم الصمت”. ثم إنهم يحرّمون نقد المجاهدين جملةً فيقولون: “لا يجوز نقدهم لأنهم يقدّمون أرواحهم في سبيل الله، فخطؤهم مقبول وذنبهم مغفور”.
الاعتراض الأول لا أصل له ولم يثبت في عقل ولا نقل، بل إن المشاهَد والغالب أن يلتبس الأمر على أهل الميدان فيقعوا في الخطأ بسبب الضغط الذي يتعرضون إليه أو بسبب اطّلاعهم على جزء من الصورة لا عليها كلها، فما أحوجَهم إلى غيرهم من أهل الرأي والبصيرة الذين سَلِموا من الضغوط واطّلعوا على تفصيلات المعركة كلها.
أما الاعتراض الثاني فإنه أغرب وأعجب، فمتى كانت النصيحة خاصة ببعض الناس دون بعض؟ لقد راجعت حديث “الدين النصيحة” فلم أجد في رواياته كلها عبارة “إلا المجاهدين”. ولا يَقُلْ أحدٌ إن النصيحة المجردة جائزة في حقهم وإن النقد لا يجوز، فإن تقويم الخطأ لا يتم إلا بهما معاً، النقد لبيان الخطأ والنصيحة لاجتنابه. وإنّا لنجد أن القرآن قد نقدَ مجاهدي الصحابة نقداً قاسياً ووجّه إليهم اللوم الشديد وهم في أسوأ حالاتهم النفسية والبدنية بعد أُحُد، ولو كان في تأجيل نقدهم ولومهم خير لأجّله -تبارك وتعالى- حتى تبرأ الجراح وتتعافى النفسيات. أمجاهدونا اليوم خيرٌ من مجاهدي الصحابة يا أيها العقلاء؟
أما قولهم إن الخطأ من المجاهد مقبول فإن هذا قد يصحّ لو كان الخطأ ممّا يؤثّر فيه ويقتصر عليه، أما إذا كان يؤثر في حياة الجماعة ويعرّضها إلى الخطر فلا يُقبَل صدوره عن المجاهد ولا يُقبَل السكوت عنه من الآخرين.
4- إذن فإن النصيحة لازمة في كل وقت وواجبة في حق كل واحد، سواء أكان من المجاهدين أم من عامة الناس، فمَن رأى خطأ ثم لم ينكره ولم يسعَ في تصحيحه فليستعدّ لسؤال الله منذ اليوم. على أنها تُشترَط في النصيحة شروط وفي مقدمها شروط وفي متلقّيها شروط.
يُشترَط في الناصح الإخلاص وتجنب الهوى وتحرّي الحق وابتغاء رضا الله. ويُشترَط في النصيحة أن تنصرف إلى الفعل لا إلى فاعله وأن تلتزم بالأدب والبعد عن الإسفاف. أما المنصوح فلا ينبغي له أن يطعن في إخلاص الناصح لأن السرائر خافية على العباد لا يطّلع عليها إلاّ رب العباد، ويُشترَط فيه أن لا يتعالى على النقد والنصيحة، وأن يعلم أن نقد الأفعال لا يعني بالضرورة نقد الفاعلين.
عندما يتوهّم المنصوح (أو أنصاره ومُحبّوه) أن الناصح يتهجم على شخصه فسوف تدفعه وتدفعهم الحميّة والعصبية إلى رفض النصيحة بالكلّية، ومن ثَمّ لزم التنبيه إلى الفصل بين الفعل وصاحب الفعل. فلو أنني انتقدت مبادرة الشيخ معاذ للحوار (وقد فعلت) فلا يعني هذا أبداً أنني أنتقد شخصه، وكيف أفعل وأنا أعلم أنه من أخلص الناس وأكثرهم استقامة ونزاهة وشرفاً وحرصاً على الأمة والدين؟ ولو أنني انتقدت تجاوزات مجاهدي “الدولة” والممارسات الخاطئة التي تصدر عنهم (وقد فعلت) فلا يعني هذا أبداً أنني أنتقد أشخاصهم، وكيف أفعل وأنا أعلم أنهم قد تركوا الدنيا وفارقوا الأهل وأقبلوا على الموت في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين من المؤمنين؟
5- ختاماً: سوف ينشأ اعتراض ما زلت أسمعه حتى أيقنت أنه سيتكرر بعد نشر هذه المقالة. سيقول بعض الناس: نحن نقبل النصيحة ونقبل النقد ولكننا لا نقبل التحريض على الجهاد وعلى المجاهدين.
ربما كان في الإعلاميين والكتّاب من يحرّض على المجاهدين حقيقة، ولكن هذه التهمة لا يصحّ إطلاقها في حق المخلصين الصادقين الذين تشهد لهم سابقة أعمالهم وما سلف من كتاباتهم بالحرص على الجهاد والدفاع عن الإسلام والمسلمين. نعم، هؤلاء يمكن أن يكونوا محرّضين، وأنا منهم، ولكنْ ليس على المجاهدين، بل على تصويب أخطائهم وعلى منعهم من الإساءة إلى أنفسهم وإلى الجهاد والبلاد والعباد.
وليس هذا تحريضاً، بل إنه من النصرة التي أُمِرْنا بها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَنا فقال: “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”. قال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: “تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره”. فإمّا أن المجاهدين معصومون، أو أنهم يخطئون فيظلمون أنفسهم ويظلمون غيرهم، فمَن رأى من ذلك شيئاً ثم سكت مَهابة أو مجاملة فقد ترك نصرة أخيه، وتقاعس عن القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخان الله ورسوله وخان جماعة المسلمين.
ما لم نصبح كلنا حرّاساً على الجهاد مدافعين عن صوابه محذّرين من أخطائه فسوف ينحرف -لا قدّر الله- عن مساره القويم ويقع في الخطأ الجسيم، وقد تضيع معه الثورة كلها ونعود إلى أسوأ من الحال الذي كنا فيه. أيّ ثمن عظيم ندفعه عندما نهاب أن نقول للمخطئ “أنت مخطئ”؟ أرجو أن لا نكون من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك ظالم فقد تُوُدِّع منهم”.