عندما أقرأ في كتب التاريخ عن عصور الانحطاط وتغلب التتار والمغول على بلادنا، وكيفية معاملتهم الفظة للناس، ربما أصفها في نفسي بأنها مبالغات من أجل إثبات نظرية سوء معاملة الغزاة، أو الحال الصعبة التي وصل إليها الناس في تلك الأزمان.
لكننا اليوم صرنا نرى الطغيان رأي العين، فالبث المباشر من موقع الحدث، سواء عبر شاشات التلفاز أو عبر الإنترنت وشاشات الحاسوب والهواتف الذكية، يعطينا الصورة أوضح ما تكون، دون مبالغات أو إضافات.
وما يجري في سوريا للشعب المسكين يجعلك تبكي ألماً وحرقة، ربما أكثر مما بكى الناس عندما سقطت البلاد بيد التتار والمغول. فقد ذكرت مصادر إخبارية أن تقريراً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أقر بأن أكثر من نصف سكان ريف دمشق محاصَرون، إضافة إلى أكثر من ثلاثمائة ألف آخرين في محافظة حمص. وكما قال مسؤول أمني لدى النظام: هي حملة (الجوع حتى الركوع). فحواجز التفتيش تمنع تهريب حتى الخبز أو حليب الأطفال أو الدواء إلى المناطق المحاصَرة.
وإذا كان بعض السكان يأكلون الخضروات من البساتين المحيطة، فإن بعضهم يقتاتون على أوراق الشجر والحشائش، وآخرون أخذوا بفتوى جواز أكل لحم القطط والكلاب والحمير. وقد رُصدت أعراض سوء التغذية كالجفاف وفقدان الوزن الحاد والإسهال… إضافة إلى حالات وفاة بسبب سوء التغذية أو الجوع. في حين ذكرت بعض المواقع الإخبارية حدوث حالات تسمم ناتجة عن أكل لحوم البشر! وحالات تسمم جماعي من أطعمة فاسدة أو ملوثة.
صحيح أن القانون الدولي لا يحظر الحصار في الحروب، لكن التجويع جريمة حرب. ويقوم قناصة النظام بقتل الذين يحاولون تهريب المواد الغذائية للمناطق المحاصَرة، كما تقوم الطائرات باستهداف الحقول وإحراقها.
ربما كان الضابط الذي يدير حاجز مخيم اليرموك في دمشق أقل قسوة من ذلك المسؤول الأمني، فقد استخدم أسلوب (الجوع أو الركوع)، إذ بعد حصار المخيم عدة أيام، سمح بفتح الحاجز عدة ساعات ليتزوّد الناس بالخبز! فخرج الناس إلى المخبز القريب، وعادوا بعد ساعات يحمل كل واحد منهم ربطة خبز واحدة حسب تعليمات الضابط، فما كان منه إلا أن صادر كل الخبز! ثم جمع النساء العجائز والرجال الشيوخ وقال لهم: من يعوي سأعطيه ربطة خبز! إنه يتصدق عليهم من مالهم! فتقدّم شيخ سبعيني، وقد ترك أطفال ولديه الشهيدين يئنّون من الجوع داخل المخيم، وأطلق عواء ذئب جريح مخنوق، في مشهد يشبه المأتم حيث وجم الناس وأطرقوا رؤوسهم من هول الموقف! فضحك الضابط وقال للجندي: أعطِ هذا الكلب ربطة خبز!
وتحفل مواقع الإنترنت بقصص الهروب من الحصار ومعاينة الموت المحقق في الطريق، أو فقدان بعض أفراد الأسرة في سبيل بقاء الآخرين، ناهيك عن فقدان كل ما يملكون من مال ومسكن. كما تتحدث تقارير منظمات أوروبية عن قوارب الموت التي تقلّ السوريين الهاربين من الجحيم منذ أن دفعتهم الحرب إلى ركوب البحر بحثاً عن الحياة، لينتهي المقام ببعضهم ضحايا مجهولين في مقابر الأرقام، وذلك بعد معاناة مع أطماع سماسرة مافيا التهريب إلى أوروبا، وحالات الاحتيال التي يتمّ فيها استغلال حاجتهم ونهب أموالهم أو تسليمهم لسلطات بعض البلدان. وتشير التقديرات إلى غرق أكثر من خمسمائة سوري قبالة السواحل الأوروبية منذ مطلع العام الجاري.
لكن الشعب الذي خرج مطالباً بحريته وأقسم ألا يعود قبل أن ينالها، رفع شعار (الجوع ولا الركوع) وشعار (الموت ولا المذلة) لتبقى ثورته ثورة الكرامة التي تستحق قربان الروح والدم. أما الضمير العالمي فالواضح أنه في حالة موت سريري.
عندما نقرأ مقالاً بعنوان: اللاجئون السوريون وحق العودة، ينتابنا الحزن والأسى، فهذا التعبير استُخدم للاجئين الفلسطينيين الذين هرب آباؤهم وأجدادهم من القتل قبل خمسة وستين عاماً ومازالوا يطمحون بالعودة إلى بيوتهم، فهل يعني هذا أن تستمر مأساة السوريين سنين عديدة والعالم يتفرج؟