بيعة البغدادي
1- أخذ الناس على أصحاب “دولة العراق والشام” وأنصارها أن إمامهم مجهول، فلبثوا حيناً من الزمن يبرّرون صحّة بيعة المجهول ويستشهدون لها بأدلة لا تقوم. ثم نُشِرَت له في بعض المواقع الإلكترونية ترجمةٌ مطوَّلة، ففرح أنصاره بها وتركوا تبرير ولاية المجهول لأنهم اكتشفوا أنه صار بتلك الترجمة معلوماً، وراحوا يطيّرونها بين الناس حتى شَرّقت وغَرّبت. فما تصوّرتُهم إلا كرَكْب في قافلة ضَلّوا الطريق في الصحراء أياماً حتى أشرفوا على الهلاك، ثم وقعوا على رغيف خبز يابس، فخَيّل إليهم الجوعُ واليأس أنهم عثروا على مئة من الذبائح مطبوخةً في الرز والثريد، فأناخوا ونزلوا للأكل وراحوا يَدْعون الآكلين!
رويداً يا أيها المستبشرون، فإنكم ما صنعتم شيئاً؛ كان صاحبكم مجهولاً قبل أن تنشروا له تلك الترجمة وبقي بعدها من المَجاهيل. إن أي واحد يستطيع أن يطرّز مقامَةً بديعة في تقريظ من يشاء، فليس نشر “سيرة شخصية” هو ما يميز المعروف من المجهول. وليس ينفي عنه الجهالةَ أيضاً قولُكم إنه يعرفه أصحابه في سامراء وفي غيرها، وهل أحدٌ من أبناء آدم -بالله عليكم- لا يعرفه بعض الناس؟ لو كانت معرفةُ بعض الناس بالواحد من الناس تجعله معروفاً حقاً فما في الدنيا مجهول، فحتى حارس الكَرْم وصبيّ البقّال يعرفهما الأهل والأقارب والأصحاب والجيران. لكن هل هذه هي المعرفة التي تُبيح لصاحبها أن يترشح لقيادة الأمة وتتيح له أن يصير أمير المؤمنين؟
2- إن الجهالة المانعة من الولاية العظمى لا تزول بمعرفة بعض الناس لأن سبب المنع لا يرتفع بمعرفة العدد القليل. إنها تزول بمعرفة الجموع عن الجموع، لأن الأصل في من يُبايَع لهذه الولاية أن يكون صاحبَ كلمة مسموعة في الأمة يلتقي عليه الناس، وهذا لا يتحقق إلا في رجل يعرفه عامة الناس. هذه هي العلة في اشتراط القُرَشيّة في الإمام (الأئمة من قريش). يقول ابن خلدون في التعليق على الحديث: “إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه لم نجد إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية، والتي يرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إليه الملّة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها”.
مَن كان كذلك يُقال إنه معروف غير مجهول، أمّا رجلٌ مستتر بين عشرات من أصحابه أو مئات فإنه لا يُقال فيه معروف، وهو قد يصلح أميراً عليهم لأنه يعرفهم ويعرفونه، أما أميراً على الأمة كلها فلا. وقد انتشرت في بعض صفحات الثورة في الآونة الأخيرة عبارةٌ عظيمة لشيخ الإسلام فيها خلاصة المسألة، أنسخها هنا ليقرأها من لم يطّلع عليها من قرّاء هذه المقالة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب “منهاج السنّة”: “إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يَقْدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول ولا مَن ليس له سلطان”.
3- لو أن الفيفا (الاتحاد الدولي لكرة القدم) أعلن عن منافسة لاختيار أعظم لاعب في العالم وطلب من أنصار الكرة في كل البلاد أن يختاروا واحداً، ثم جاءت ثلّة من اللاعبين من أحد أحياء بلدة صغيرة في بلد بعيد فقالوا: إننا نرشّح لهذا اللقب العظيم لاعبَنا الكبير وأفضل مهاجم في الدنيا. سيقول الناس: ومن هذا؟ يقولون: اللاعب الكبير “فراس أبو راس”، فإنه لا يخوض نزالاً كروياً إلا ويضع في مرمى الخصم خمسة أهداف فما فوقها، كلها بضربات رأسية صاروخية ليس لها في الدنيا مثيل.
سيقول الناس: جميل، ولكنه لاعب مجهول، ولا يستطيع أنصار الكرة في أنحاء الأرض منح أصواتهم لمجهول. سيغضب أصحابه ويثورون ويقولون: كيف يكون مجهولاً وكل أعضاء الفريق يعرفونه ويعرفون مهارته وسجلّه الكروي الطويل، بل إن أهل الحارة كلهم يعرفونه حق المعرفة ولن يمنحوا أصواتهم إلا له. يقول الناس: لكن نحن لا نعرف فريقكم الذي يعرفه، بل إننا لا نعرف حارتكم كلها، فإن يكن معروفاً فهو معروف عندكم، فاختاروه نجمَ الملاعب في الحارة إن شئتم، بل في البلدة كلها، أما نحن -أهل الأرض- فليس الرجل عندنا سوى مجهول من المجاهيل.
هذا مثال أبي بكر البغدادي وأصحابه الذين يريدون أن يفرضوه أميراً للمؤمنين وإماماً لأمة المسلمين.
4- لو أن أحدكم أنفق أربعين سنة من عمره في كدّ وجهد وعمل دؤوب حتى اجتمعت له ثروة صغيرة هي خلاصة تلك السنين الطويلة، ثم جاءه شخص فقال: إني أعرف مشروعاً تجارياً يديره رجل عبقري، فهات كل ما ادخرته من مال ليثمّره لك. تقول: هل هذا الرجل معروف؟ يقول لك: بالطبع، وقد قرأت عنه مقالة في الإنترنت تقول إنه أدار تجارة ناجحة وربح ربحاً وفيراً، حتى إن شركاءه اختاروه مديراً للشركة التي أنشؤوها، ولولا أنه مدير قدير لما استأمنوه على أموالهم. تقول: وهل تعرف أنت أولئك الشركاء معرفة وثيقة؟ فيقول: لا والله لم أرَهم قط، ولكني قرأت في الإنترنت إنهم ثقات مأمونون.
يا أنصار الدولة: أستحلفكم بالله: لو أن أحداً منكم عُرض عليه هذا العرض، أكان يضع ثمرة عمله وصَفْوة ماله في أيدي أولئك الناس؟ نشدتكم الله أن تَصْدقوا مع أنفسكم، هل ترون أن مثل هذا المدير “معروف” بحيث تضعون في يديه كل ما تملكون من مال؟ إن كان الجواب بالإيجاب فعوضكم على الله، وإن كان جوابكم أن “لا” فإني أسألكم: كيف أبيتم أن تستأمنوا على المال رجلاً هذا مبلغُ علمكم به، ثم استأمنتم رجلاً لا يزيد علمكم به عنه على مصير سوريا والعراق وأردتم فرضه على أمة المسلمين؟
يا أيها العقلاء: أنشدكم اللهَ أن تراجعوا أنفسكم، وأسألكم بالله أن تتّقوه في الجهاد والبلاد والعباد، فإنها أثمن من أموالكم وأموال الناس أجمعين.