لا يعبر هذا عن وجهة نظر كاتبه ، وإنما هو تعبير عن حال قائم يتلبس به البعض في القرن الحادي والعشرين .وشرح لنظرية قديمة قامت على فن من فنون الإدارة الفردية عرفته الأجيال ، وألفه العمد والمخاتير والقائم مقامون والسلاطين من ملوك ومماليك . نظرية قديمة في عالم القيادة والإدارة لا يخلو أمرها من وجاهة ولا يعدم القائلون بها حجة ..
ولو عدنا إلى كتب الأحكام السلطانية والسياسات الشرعية للحظنا أن علماء هذا الفن يميزون في مقام الوزارة بين وزارتين ؛ وزارة التنفيذ ووزارة التفويض . ووزير التنفيذ هو الوزير الذي يرسم له السلطان أو صاحب الأمر حدود السياسات ، ويحدد له نقاط وفواصل القرار فيبقى فيما يفعل في حدود (وما على الرسول إلا البلاغ ) . ولا يسمح له بحال الخروج على النص ، أو تدبر ما قدر فيهم مصلحتهم القوم . ووزير التفويض هو الوزير الذي يقال له: الرأي رأيك والأمر أمرك لا معقب لحكمك ولا تسأل عما تفعل . ويتصرف وزير التفويض بأمر الناس الذين يلي أمرهم بما يقدر وحسبما يقدّر ، وحسب مبلغه من العلم ، أو حسب ميله النفسي ، أو حسب ارتباطاته وحساباته الفردية ..
ومع أن الإمام الماوردي قد نص أنّ على وزير التفويض أن يطلع الإمام على تصرفاته ، لئلا يصير في الأمر مثله إلا أن القائلين اليوم بهذا الفن من فنون الإدارة يرون أن الثقة القائمة بين الإمام ووزيره تكفي ، وإن لمح آخرون إلى ضرورة الإحاطة ليبارك الإمام فعل وزيره بالاطلاع عليه حتى لا يقع في التناقض ، وحتى يستطيع الدفاع عنه كلما أحوجه ذلك إلى ذلك ..
ويركز المدافعون عن فن الإدارة الفردية أو الإدارة بالتفويض دفاعهم بالقول : ولأن الشاهد يرى ما لايرى الغائب أولا ، ولأن المستجدات تمطر فوق رأس الناس تترى ثانيا فلا بد لمن تحمل الأمانة أن يكون قادرا على التعامل معها، وأن يكون جوابه عندما يحتاجه ( في فمه وليس عند أمه ) حسب القائلين بنظرية الشورى ثانيا .
ويضيفون ولأن الثقة تلغي ما يدعو إليه البعض من المراجعة والمشاورة ولاسيما حين يكون الوزير المفوض ثقة ثبتا حافظا قد أوتي من علوم الأولين والآخرين وكشف عن بصره فرأى ما سيكون إلى يوم الدين . وأدرك أسرار المصالح ، وأبعاد المواقف ، ومآلات السياسات ، قد أحكم المقدمات ، وعجم المصادر ، وأحاط بالعواقب . وهو وإن لم يدع إلهاما ولا عصمة فقد لاح برهان إلهامه وظهرت مخايل عصمته . لا يجادل في ذلك إلا صاحب غرض أو من كان في قلبه مرض .
ويضيف أصحاب هذه النظرية مستدركين إنما أمر سول الله بمشاورة أصحابه لأنهم كانوا حديثي عهد بإسلام ، فكان لا بد من تطييب قلوبهم بالشورى ؛ أما بعد أن ضرب الإسلام بجرانه قرونا في الأرض ووجد بين ظهراني المسلمين النخبة الواعية التي تثق وتفوّض ، كما وجد القادة الملهمون القادرون المقتدرون ، فقد أصبح اتخاذ القرار بالشورى من مخلفات الماضي ، وأصبحت فكرة مجلس الإدارة ، والقيادة الجماعية ، والمشاركة في الرأي أو في القرار من البيوقراطية المعوّقة ، التي تقمع الإبداع الفردي ، وتضع سقفا لتطلعات البطل غير المحدودة ..
ويتساءلون أليس فرعون الذي قال لقومه : ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد هو نفسه فرعون ذو الأوتاد الناجح في عمرانه القوي في سلطانه ..
وزيادة في التوضيح يضيفون : كيف تطلق فرسك في المضمار مقيد اليدين أو معصوب العينين أو مسدود الأذنين وتشترط عليه أن ينقل الخطو على ما ترسم وليس أن يحوز قصب السبق فيجيء مجليا أو مصليا ..؟!