1- في وقت مبكر من عمر الثورة عقد أحرارُ سوريا آمالَهم على الغرب وعلى المجتمع الدولي لإنقاذهم من إجرام عدوهم وشراسته وطغيانه، ولعل بعضهم غلبت عليه الحماسةُ في لحظة من اللحظات فرفع العلمَ الأميركي والعلم الفرنسي في بعض المظاهرات.
ما يزال قليلون يملكون مثل هذا الأمل إلى اليوم، فيَسْتجدون الدعمَ والنصرة من أميركا والغرب والمجتمع الدولي. الحمد لله أنهم قليلون، وأن الغالبية العظمى من أحرار سوريا باتوا يميزون العدو من الصديق، وأنهم صاروا واثقين أن أميركا ليست أقل عداء لهم ولثورتهم من الروس والإيرانيين، إلا أن لكل من تلك الدول دوراً في لعبة دعم النظام وضرب الثورة، فهم يتبادلون الأدوار ويتكاملون في الأداء.
لقد علمنا يقيناً -بعد كل الذي رأيناه- أن الغرب لن يضحّي بمصالحه، وأن أميركا لن تتخلى عن بعض أهمّ حلفائها في المنطقة (النظام السوري وإيران)، وأنها سوف تقاوم بكل شراسة استقلالَ سوريا وسوف تسعى إلى استلاب حريتها، وأنها ستدعم نظاماً طائفياً يوافق مصالحها ولو طالبَنْا ونادينا واستجدَيْنا ألف سنة.
نحن نعلم أن نظام الاحتلال الطائفي إنما هو زرعٌ من زرعهم، زرعته فرنسا ثم رعته أميركا وتعهّدته بالحماية على مر السنين، فإذا كان الغرب هو سبب البلاء وأصل الداء فكيف يأتي منه اليومَ الدواء؟
هذا اليقين مهم جداً أيها الأحرار، ليس ليخرجَنا إلى الشوارع هاتفين: “تسقط أميركا”، فإن الهتافات لا تُسقط الدول ولا تغيّر الواقع؛ إنه مهم لأنه يصرفنا عن الطريق الخطأ ويوجّهنا إلى الطريق الصحيح. إنه يؤكد لنا أن طلب النجدة من الغرب لا يقلّ غرابةً عن طلب الراعي مساعدةَ الذئب في رعي الغنم! ويؤكد لنا أن من أعظم السذاجات أن نظن أن الغرب سينقذنا اليوم، وهو الذي لم نَرَ منه إلا الشر والضرّ في مئتَي عام من الغزو والاستعمار.
أما أهم ما نستخلصه من النتيجة السابقة فهو أننا أَولى الناس بمساعدة أنفسنا وأن مشكلتنا لن نحلّها إلا بأيدينا إن شاء الله.
2- لئن تخلى العالم عن السوريين فإنه لم يستطع أن يسلبهم أهمَّ ما تنهض به الأمم وتنتصر في معركة البقاء؛ الهمّة والعزيمة والرغبة في الحياة والإصرار على الانتصار. أيستطيع أحدٌ أن يجرد أحداً من هذه الفضائل؟
لقد آن الأوان لنعتمد على أنفسنا -بعد الاعتماد على الله- ونكفّ عن طلب المساعدة من الآخرين. وإنّ ما نملكه من موارد وكفاءات وطاقات لَيستطيع -إذا اجتمعت معه الهمة الصادقة والاتكال الحقيقي على الله- أن ينقذنا من الحاجة إلى صدقات المجتمع الدولي، التي تسبقها شروط مجحفة وتحكّم وإذلال، ويعقبها فقدان الحرية وضياع الكرامة والاستقلال.
إننا نملك الأراضي الخصبة والمياه العذبة ونملك ثروة في بطن الأرض وثروة على ظهرها، وأهم من ذلك كله: إننا نملك طاقة الإنسان. لقد استغلّ الإنسان طاقات الكون بأمر الله {وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه}، ولكنه لم يصنع ذلك إلا باستغلال ما اختصّه الله به من دون سائر المخلوقات، من عقل وحكمة وهمة وحسن تدبير، وكل ذلك نملك منه -بفضل الله- الكثيرَ الكثير.
عندما أفكر في هذا كله وأتصور الأعداد الهائلة من الناس الذين يمكن أن يساهموا في العمل، عندها لا أجد نقصاً إلا في العقول المدبّرة. إننا نحتاج إلى أصحاب المبادرة الذين يملكون الموهبة والخيال ويستطيعون تجميع الناس وتوجيههم في الطريق المثمر. هؤلاء الناس قليلون ولكنهم موجودون، هم الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: “الناس كأبلٍ مئة، لا تكاد تجد فيها راحلة”، والراحلة كل نجيب من الإبل كما تقول العرب.
فإذا كان في المئة من الناس رائدٌ نجيب واحد (وصدق رسول الله عليه صلاة الله وسلامه) ففي سوريا اليوم مئتا ألف من الروّاد النجباء أو يزيدون.
ما أحوجَنا اليومَ إلى أولئك المتميزين الأفذاذ، الذين لا يضيّعون الوقت باجترار الحزن وبثّ اليأس والبكاء على الذات، بل إنهم ليطرحون الضعف ويستعيذون بالله من العجز، ويردّدون صباحَ مساءَ دعاء النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: “اللهمّ إنّا نعوذ بك من العجز والكسل”، ثم يشمّرون عن السواعد ويقومون لتشغيل القاعدين والقواعد فيما فيه خيرُ الجماعة وصلاح مَعاشها.
إن الذي صنعه السوريون إلى اليوم كثير والذي يستطيعون أن يصنعوه أكثر، وهذا موضوع مهم يحتاج إلى بحث موسَّع في غير هذا المقام، فلعلي أعود إليه بتفصيل أكبر في بعض الكتابات الآتية إن شاء الله.