نعم، آن له أن يرتاح؛ ليس من بلاء اثنين وثلاثين شهراً فحسب، وإنما من عناء مئة عام، وليس فقط من الحصار والتجويع والاعتقال والقصف والقتل والتدمير، وإنما من دهر طويل من الخوف والذل والاستعباد. آن للشعب السوري أن يعيش حراً كريماً بلا خوف ولا ذل ولا استعباد.
1- عُزل السلطان عبد الحميد عام 1909 بانقلاب عسكري (يشبه انقلاب السيسي الأخير في مصر) نفّذه بعض ضباط الجيش العثماني، وكانوا ينتمون إلى حركة عنصرية طورانية اسمها “الاتحاد والترقي” وكثير منهم من يهود الدونمة كما صار معروفاً من بعد. بدأ الاتحاديون على الفور بسياسة تتريك عنصرية كان العرب في بلاد الشام وغيرها من ضحاياها، ثم قذفوا الدولة -بعد ذلك بخمس سنوات- في أتون حرب عالمية لم تكن لها بها علاقة وليس لها فيها ناقة ولا بعير.
كان ينبغي على الدولة العثمانية أن تقف على الحياد وتترك الممالك الأوربية يطحن بعضُها بعضاً، فإذا وضعت الحرب أوزارها خرج الأعداء المتنازعون منهكين مستهلَكين -مَن ظفر منهم ومن خسر- وصارت الدولةُ ظاهرةً بما سلم لها من قوّتها وطاقتها وفرضت نفسها على الضعفاء المنهكين. ذلك ما كان ينبغي أن يكون، ولكن الاتحاديين أساؤوا التدبير والتقدير فقذفوا الدولة في تلك الحرب المدمّرة الهوجاء، فعاش الناس في بلاد الشام في ضَنْك وبؤس وعاشوا في خوف وهوان؛ حوصرت الحريات ولوحق الأحرار، وأكلت المعارك الرجالَ الذين سيقوا إلى الجبهات وحصدت المجاعات من بقي منهم في البلاد، لأن الاتحاديين أخذوا ما أنتجته الأرض من خيرات فمنحوها للألمان.
2- ثم انجلى غبار المعركة عن خسارة عظيمة لألمانيا وحلفائها، فسقطت الدولة العثمانية وتبعثرت ممتلكاتها بين الأعداء، فكانت سوريا من نصيب الفرنسيين الذين دخلوها مغتصبين محتلين. نزلوا بالسواحل أولاً، ثم تقدموا على البر حتى طرقوا دمشق، واستسلم فيصل وحلّ الجيش وولى هارباً خارج البلاد، ولكن وزير الحربية الشاب الشجاع الأبيّ، يوسف العظمة، أبى الهوان والاستسلام، فخرج في ثلاثة آلاف من الجند والمتطوعين إلى ميسلون وليس في أيديهم إلا حفنة من البواريد القديمة، فالتقوا بتسعة آلاف من الجند المحترفين ومعهم المدافع والدبابات والطيارات، فاستُشهد يوسف ومئات من رفاقه، وانكسر الجيش وانفتح طريق الغزاة إلى دمشق.
في اليوم التالي، الرابع والعشرين من تموز 1920، دخل الجيش الفرنسي دمشق محتلاً غازياً، فلم يخرج منها إلا بعد خمس وعشرين سنة وشهور. ربع قرن عانى فيه السوريون من الاحتلال والإذلال، ربع قرن من الاستعمار حُرِّقَت فيه بلادنا بالنار وقُتِّل خيارُ أهلها وشُرّد الأحرار، ربع قرن لم يكفّ فيه السورين عن الثورة والجهاد حتى تحرروا من الاحتلال وتخلصوا من الاستعمار.
3- ما كاد الاحتلال الفرنسي ينحسر عن سوريا، وما كاد السوريون يلتقطون أنفاسهم ويحتفلون بحريتهم الضائعة ويستردّون كرامتهم المهدورة، ما كادوا يستنشقون نسمات الحرية ويحسّون بالأمان ويملكون أمرهم وإرادتهم الحرة وقرارهم المستقل وحقهم في اختيار حكام وحكومات البلاد، ما كاد ذلك كله يتحقق حتى ضربتهم قارعة الانقلابات. لم يطب لأعداء الأمة أن تبقى سوريا حرة مستقلة كريمة، خرج الفرنسيون من الباب فدخل الأميركيون من الشبّاك. أرسلت الولايات المتحدة عملاءها، كيرمت روزفلت ومايلز كوبلاند وستيفن ميد وبقية العصابة، فاتصلوا برئيس أركان الجيش حسني الزعيم، ودبروا أول انقلاب عسكري في تاريخ سوريا الحديثة في الثلاثين من آذار عام 1949.
الحكم العسكري والحرية ضدان لا يجتمعان، فما دخل أحدهما أرضاً إلا خرج الآخر منها. جاءت الانقلابات بالعسكر إلى حكم سوريا وبدأ الضغط على الحريات يتزايد انقلاباً بعد انقلاب. لم يلبث الزعيم أن سقط بانقلاب الحناوي الذي قاده أديب الشيشكلي من خلف الستار، ثم أزاحه بانقلاب آخر وصار هو الحاكم المطلق لسوريا، فزاد الاستبدادُ وخنقُ الحريات وملاحقة الأحرار. ثم زاد مرة أخرى حتى بلغ ذروته في العهد الناصري الكئيب أيام الوحدة، فقد عرف السوريون فيه للمرة الأولى الهيمنةَ المطلقة للأجهزة الأمنية، حينما صار عبد الحميد السراج الذي كان رئيساً لجهاز المخابرات (وقد مات في القاهرة بصمت قبل شهرين فلم يحسّ به أحد) صار وزير الداخلية ورئيس المكتب التنفيذي للإقليم الشمالي (سوريا)، وبلغ عهده من السوء درجة ظن السوريون أنها لا مزيد عليها، حتى دخلوا في النفق المظلم بعد انقلاب البعث المشؤوم.
4- كل ما سبق استغرق نصفَ القرن الأول من المأساة، وما زالت عهودُه تأكل حريةَ السوريين وكرامتهم وأمنهم وحياتهم قطعة بعد قطعة، حتى جاء العهد البعثي الأسدي المجرم المظلم فأكل البقية الباقية منها جميعاً، وحجب عن سوريا الشمس وحوّلها إلى سجن كبير. نصف قرن عاش فيه عشرون مليون سوري في سجن كبير اسمه سوريا، وعاش فيه عشرات ألوف في سجون أصغر ضمن السجن الكبير. لم يأمن أحدٌ يوماً أن يبقى في السجن الكبير فلا تبتلعه بعضُ السجون الأصغر، لم يأمن أحد يوماً على نفسه. عاش الناس العددَ العديد من السنين في خوف ليست له حدود، خوف من كل شيء وخوف من كل أحد، خوف من اليوم وخوف من الغد وخوف من المعلوم وخوف من المجهول.
ثار السوريون على المحتل الأول، فرنسا، فهزموا فرنسا وأخرجوها من سوريا، ولكن الاحتلال عاد بصورة أبشع وأقسى، حتى وصل السوريون إلى يوم قالوا فيه: ليتنا ما حاربنا فرنسا، يا ليت فرنسا تعود! ذلك لأنهم خُدعوا يومَ ظنّوا أن الاحتلال هو الذي يأتي من وراء الحدود فحسب، ثم علّمتهم الأيامُ أن احتلال مَن يتحدث بلسانهم ويسكن في أرضهم أسوأ من احتلال البعيد الغريب، فذاك يعرف الجاهل والعاقل أنه عدو لئيم ومحتل غريم، وهذا يلبّس على المغفلين حتى يظنّوه منهم فيسكتوا عنه ويركنوا إليه. ذلك عدو غريب إذا طُرد انطرد وهذا عدو قريب ينزرع فلا ينقلع.
5- آن للشعب السوري أن يرتاح فقد تعب كثيراً؛ تعب من الخوف، تعب من الذل، تعب من القيود والأغلال. آن للسوريين أن يستنشقوا نسيم الحرية، آن لهم أن يعيشوا بلا خوف، بلا رعب، بلا مخابرات سياسية وعسكرية وجوّية، بلا شبّيحة وجواسيس، بلا سجون ومعتقلات، بلا قيود بلا أغلال.
لقد تعب السوريون وآن لهم أن يرتاحوا أخيراً. تعلّموا أن الاستبداد أساس كل شر وأن الحرية أصل كل خير، وعلموا أن الشعب الذي يفقد حريته وكرامته يفقد معهما كل شيء: الدين والدنيا والحياة والاستقلال، فإنهم اليومَ لأشدّ حرصاً على الحرية والكرامة من حرصهم على الأمن والحياة.
6- ليعلم رُعاة المؤتمرات ودُعاة المفاوضات: يوم ثار الشعب السوري لم تكن مدن ومناطق تحت القصف والحصار ولا كانت في السجون تلك الأعداد الهائلة من المعتقَلين، فلا تساوموه على إطلاق المعتقلين ووقف القصف وفكّ الحصار، فما لهذا كله انتفض وثار؛ لقد ثار من أجل الحرية والكرامة، فهتف هاتفوه: “حرية للأبد”، وصاحوا فرددت صيحاتهم جنباتُ الدنيا: “الموت ولا المذلة”. نعم، الحرية والكرامة هما ما يريده السوريون وهما ما يصرّون على الفوز به والحصول عليه ولو طالت ثورتهم مئة عام.
إنها كلمة نرسلها إلى القريب والبعيد والعدو والصديق، إلى مَن منح نفسه حق تقرير مصير سوريا باسم الإسلام ومن يدعو إلى مؤتمرات التوافق والسلام والاستسلام، وليفسّرها كل واحد كما يشاء: لا تُنازعوا الشعب السوري على حريته وكرامته بعد اليوم، لا تحاولوا أن تسلبوه إرادته أو تفرضوا عليه الوصاية. لقد رأيتم غَضْبة شعب طال حِلْمه وطال صبره، ليس البركان إذا ثار كالجبل الخامد، اتقوا ثورة البركان.