4- كم كنت أعجب عندما أشاهد صور المجاعات في بعض بلدان إفريقيا وصور كوارث الفيضانات والأعاصير في بعض بلدان جنوب آسيا، فأرى أناساً يجلسون ذاهلين خاملين ينتظرون الموت، وكنت أقول لنفسي لقد تفوقَت الحيواناتُ العَجْماوات التي لم توهَب إلاّ الغريزة على أولئك العقلاء الذين وهبهم الله العقل والإرادة، فلو أن التي ضربها الجوعُ كانت طيوراً تطير في السماء أو دوابَّ تدبّ على الأرض لانطلقت ساعيةً باحثة عن الرزق في أي مكان. ألا ترون إلى الهرّة كيف تَطوف تتشمّم الأرض تبحث عمّا يسد الرمق؟ أيكون الواحد من أبناء آدم أعيى من القِطاط؟
لقد فكرت فوجدت أن الفرق بين الأمم الحية والأمم الميتة هو الهمة والعزيمة والمبادرة والثقة بالنفس، فإن الأموات ينتظرون النجدة من غير أنفسهم، والأحياء يعتمدون على أنفسهم لا على الآخرين. الأمم الحية هي التي تجعل من الصِّعاب فُرَصاً للتقدم والنجاح، والأمم الميتة هي التي يصوّر لها عجزُها ويأسها الفرصَ صِعاباً مستعصية على العلاج، وإني لأرجو أن يكون السوريون من أمم الحياة لا من أمم الموت. لقد كان أبناء هذه الأرض على الدوام مثالاً مضروباً في النشاط والإبداع وعلوّ الهمة والقدرة على النجاح، ولن يكون أولاد اليوم الجديد إلا خيرَ وُرّاث لأمجاد الأسلاف إن شاء الله.
يا أيها السوريون الكرام لا تنتظروا المنقذين من خارج الحدود، فما أدراكم أنهم سيأتون؟ وكيف تتسع طاقتهم -إذا جاؤوا- لتكفي الملايين؟ لا، إن المرء لا ينقذه إلا عملُ نفسه، فقوموا فابحثوا عن كل ثغرة قائمة ثم أبدعوا خير الوسائل لسدّها. ما عال مَن صنع ولا جاع مَن زرع، فازرعوا واصنعوا وأبدعوا وتوكلوا على الله.
ليكن همّ كل جماعة أن تكفي نفسها، فإن كفايات الجماعات الصغيرة عمل تراكمي من شأنه أن يكفي الناس جميعاً، وخير وسيلة لتحقيق ذلك هي “التعاونيات”. وما “التعاونية”؟ إنها مشروع صغير يتعاون في تحقيقه العددُ القليل من الناس فيُنتجون ما يكفيهم في بعض جوانب الحياة، وهو مشروع ذاتي يقوم به الناس بأنفسهم لخدمة أنفسهم، يتحركون بما آتاهم الله من قدرات وما تملكه أيديهم من موارد ولا ينتظرون النجدة من الآخرين.
5- إن بضع مئات من الأُسَر تقيم في قرية من القرى أو في بعض أحياء المدن الكبيرة يمكنها أن تنشئ مشروعات تعاونية ناجحة تكفيها وتُغنيها عن استجداء المساعدة من الآخرين، فيرعى بعض الرجال مشروعاً زراعياً وحيوانياً يُنتج الخضرةَ والفاكهة والبيض ولحوم الدواجن وألبان الماشية، وتنشئ بعض النسوة دار خياطة يكفي إنتاجها لكسوة كبار الجماعة وصغارها. ولا بدّ أن يوجد في الجماعة معلمون ومعلمات فيعلّمون التلاميذ والتلميذات، وطبيب ومسعفون وممرضات يقدمون الرعاية الطبية، وبعض الفنّيين المَهَرة الذين يقومون بصيانة وتشغيل ما تملكه الجماعة من أجهزة منزلية وطبية وأجهزة اتصالات وغيرها من آلات وأدوات، ومهندس مع بعض البنّائين والعمال لترميم البيوت المصابة وإنشاء مساكن متواضعة بدلاً من تلك التي يهدّمها قصف نظام الإجرام… إذا نجحت الجماعة في إنشاء وإدارة عدد قليل من المشروعات الأساسية فإنها ستكتفي ذاتياً وتستغني عن المساعدة والإحسان.
لو أننا نظرنا فسوف نجد أن كل جماعة من الناس في أنحاء سوريا جميعاً تملك من الموارد والأيدي العاملة ما تستطيع به إنشاء أمثال تلك “التعاونيات” وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي؛ إنما تنقصهم الكفاءات الإدارية التي تستطيع إبداع المشروعات ورسم الخطط وتحفيز الهمم وتجميع الموارد المادية والبشرية وتنظيم فِرَق العمل. هؤلاء الناس ليسوا كثيرين ولكنهم موجودون دائماً، إنهم هم “الرّواحل”، القادة الأفذاذ الذين أشرت إليهم في مقالتي السابقة، وهم محلّ الخطاب في هذه المقالة
يا أيها المتميّزون المبادِرون الأكْفاء إنكم تعرفون أنفسكم وتعرفون أنكم تستطيعون أن تساعدوا الناس وأن تصنعوا الكثير، فإن أضعتم الأمسَ فلا تضيّعوا الغد؛ ابدؤوا بالعمل من فوركم ولا تنتظروا توجيهاً ولا تنظيراً من أحد من الناس. ابحثوا عن كل حاجة من حاجات الجماعة التي تعيشون معها وأنشؤوا لكفايتها “تعاونية” من أهل الحي أنفسهم وباستثمار الموارد المتاحة بين أيديكم، ولا تحمّلوا أنفسكم ولا تحمّلوا الناس ما لا يطيقون. لا نريد من أي “تعاونية” إلا أن تكفي جماعتها فحسب، ولو أن هذا الهدف تحقق فقد كفينا أهل سوريا جميعاً.
6- بقيت تتمة لا بد منها لضمان تنفيذ هذا المشروع إن من الاحتياجات ما لا تكفي لتلبيته الهممُ والكفاءات المحلية والموارد المتاحة في أيدي الجماعات الصغيرة، ولا بد له من دعم من خارجها، إما بالمال أو بالخبرة والتدريب أو بالآلات والمواد. فلو أن الجماعة أنشأت مخيطة فإنها قد ينقصها القماش الذي تخيطه ملابس تُلبَس، ولو أنها شغّلت مخبزاً فإنها ستحتاج إلى الدقيق الذي تخبزه خبزاً يُؤكل، وربما احتاج طبيبُ العيادة إلى أدوية وأدوات وخطيبُ الجامع إلى كتب ومراجع، واحتاج التلاميذ إلى دفاتر وأقلام والمزارعون إلى بذور وسماد، إلى غير ذلك مما لا يتوفر في أيدي الجماعة من الجماعات الصغيرة الكثيرة التي ستنتشر وتنتثر في طول سوريا وعرضها. فماذا تصنع؟
هنا يأتي دور الهيئات والمنظمات الإغاثية، فإنها ينبغي أن تقدم دعم “التعاونيات” المنتِجة على دعم سواها من الجماعات غير المنتجة، فتوفر لها الأدوات والآلات وتمدها بالنصائح والخبرات. إن كلاً من تلك الجماعات قائمة على نهر، ولئن مددناها بصِنَارة للصيد ومقلاة للقلي خير لنا من تزويدها ببعض الأسماك كل يوم، ويوم تكتفي الجماعات الصغيرة وتنجح في معركة البقاء فإن سوريا كلها ستكتفي وتمضي في ثورتها إلى آخر الطريق بإذن الله.