1- قبل نحو ثمانين عاماً نشر أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- مقالة قصيرة بعنوان “كلمة وكُلَيمة”، صاغ فيها قانون الصراع بين المعتدي وصاحب الحق في سطر واحد؛ قال: “إذا كانت المشكلة بين الذئب والحمل فلن يكون حلّها إلا من أحد اثنين: إما لحم الخروف، أو عصا الراعي” (مجلة “الرسالة”، العدد 124، 18/11/1935).
2- جاء في ديباجة إنشاء الائتلاف الوطني السوري ما يأتي: “يلتزم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بالثوابت الوطنية للثورة السورية ويستند إليها في شرعيته، ومن أهم هذه الثوابت…”، ثم نقرأ عدداً من المبادئ الأساسية منها: “عدم الدخول بأي حوار أو مفاوضات مع النظام”. هكذا بإطلاق وبلا أي استثناء.
3- يقولون: نحن ذاهبون إلى جنيف لإخراج الأسد من المعادلة واستلام السلطة. يقول وزير الأسد: إذا كان أحدٌ يحلم بإخراج الأسد من المعادلة فليوفر على نفسه ثمنَ التذاكر ومصاريفَ المؤتمر. يقول الروس والأميركيون: سيذهب الجميع إلى جنيف بلا شروط مسبقة. وزير الأسد يعيد التأكيد: أي قرار لن يصدر عن مؤتمر جنيف إلا بموافقة الأسد. يقول أصحابنا مرة أخرى: ذاهبون إلى جنيف لإخراج الأسد من المعادلة واستلام السلطة.
لا بد أن أحد أطراف الحوار السابق يخدع نفسه والآخرين أو أنه يعيش في عالم الخيال. من هو يا تُرى؟
4- يقولون إن الذهاب إلى جنيف ضروري لوقف القتل وإطلاق المعتقلين. ألا يذكركم هذا الذي يقولونه بشيء سمعتموه ذات يوم؟
للتذكير: وافق النظام بتاريخ 3/11/2011 على خطة السلام العربية التي تُلزمه بوقف إطلاق النار، يومها كان العدد الرسمي لشهداء الثورة هو 4150. ثم وافق سفاح سوريا رسمياً بتاريخ 27/3/2012 على خطة كوفي عنان التي تطالب النظام السوري بتنفيذ ست نقاط، منها: الوقف الفوري لاستخدام الأسلحة الثقيلة وسحب الجيش من المناطق السكنية، والسماح الفوري بوصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المنكوبة، وإطلاق المعتقلين، وضمان حرية التظاهر السلمي. يومها كان العدد الرسمي لشهداء الثورة قد بلغ 12100. عندما أقرّ مؤتمرُ جنيف الأول خطةَ عنان كان عدد الشهداء قد بلغ ثلاثين ألفاً، ومنذ ذلك اليوم زادوا مئة ألف آخرين.
5- اجتمعوا في جنيف أولَ مرة للمطالبة بتطبيق خطة كوفي عنان، ثم تداعوا إلى جنيف مرة ثانية مطالبين بتطبيق قرارات مؤتمر جنيف الأول. حسناً فعلوا بترقيم مؤتمرات جنيف، فإنهم لمّا افتتحوها بالأول وألحقوا به الثاني علمنا أن بعدهما ثالثاً ورابعاً وما لا يعرف نهايته من عدد إلا الله. ما بين مؤتمر ومؤتمر ضغط من رعاة المفاوضات وتصلّب من مفاوضي النظام وتنازلات من مفاوضي المعارضة، ثم قرارات كورق الشجر اليابس تذروه الريح. وإلا فأخبرونا يا أيها الذاهبون إلى جنيف الثاني: ماذا صنع نظام الاحتلال السوري وماذا صنع نظام النفاق الدولي بمقررات ونتائج جنيف الأول؟
مَن ظنّ أن حظّ ما يخرج من جنيف الثاني سيكون أعظمَ من حظ ما خرج من جنيف الأول فقد آن له أن يستيقظ من المنام وأن يتخلى عن الأحلام والأوهام.
6- من ذاكرة التاريخ: عُقدت في الخرطوم قمّةٌ عربية في التاسع والعشرين من آب (أغسطس) 1967، بعد أقل من ثلاثة أشهر على سقوط القدس بأيدي اليهود، عُرفت بعد ذلك باسم “قمّة اللاءات الثلاث”، لأن القادة العرب أكدوا فيها على التشبث بثوابت الأمة العربية في صراعها مع العدو اليهودي، وهي ثوابت عبّرت عنها ثلاث لاءات مشهورة: لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض.
7- من ذاكرة الأيام التالية: “تفاوضت” الدول العربية مع العدو اليهودي الذي يحتل فلسطين، و”اعترفت” الدول العربية بالعدو اليهودي الذي يحتل فلسطين، و”تصالحت” الدول العربية مع العدو اليهودي الذي يحتل فلسطين. بعد ذلك صار أشراف الأمة الذين يدافعون عن فلسطين ويحاربون العدو اليهودي الذي يحتل فلسطين، صاروا متمردين إرهابيين خارجين عن الإجماع الدولي، وصاروا مطارَدين ومنبوذين من الدول العربية التي أعلنت ذات يوم لاءات الخرطوم.
8- من ذكريات كاتب هذه الكلمات: أمضيت سنوات شبابي وأنا أتابع الجدل بشأن القرار الدولي الشهير الذي أصدره مجلس الأمن لحل النزاع، القرار 242، وقد حُصر الجدل أخيراً في حرفين: الألف واللام. النص العربي يقول إن على اليهود إعادة “الأراضي المحتلة” إلى أصحابها، النص الأجنبي يقول إن عليهم إعادة “أراض محتلة”. في النهاية انتصر نصٌّ ليست فيه ألِفٌ ولام، فأعاد اليهود المحتلون لأصحاب الأرض بضعة كيلومترات مربعة وحصلوا على الاعتراف والتطبيع والسلام.
مَن يضمنُ أن لا تعود المعارضة السورية من جنيف باتفاق فيه مشكلة جديدة بأل التعريف أو بغيرها من الأحرف والأدوات؟
9- أثبت طريق المفاوضات الذي يرعاه الغرب أنه طريق صالح يوصل إلى الغاية بالوقت القصير. لم تستغرق رحلة الشعب الفلسطيني الجريح المكلوم إلا خمساً وأربعين سنة، وبعدها استطاعت الهيئة السياسية التي فاوضت باسمه استرجاعَ واحد بالمئة من أرض فلسطين السليبة. وهكذا بقي تسعة وتسعون بالمئة من الأرض لا أكثر، ولعلها تُسترجَع بمفاوضات لاحقة ذات يوم. بالمقابل لم تُضطر “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى تقديم تنازلات جسيمة لتحقيق ذلك النصر الكبير، كل ما في الأمر أنها تنازلت عن حق العودة وسكتت عن تهويد القدس واعترفت بحق إسرائيل في الوجود على ثمانية وسبعين بالمئة من أرض فلسطين!
10- ما بين أوسلو (1993) وجنيف الثاني (2013) عشرون عاماً، لم يتغير فيها النظام الدولي ولا صار أكثرَ إنسانية، إنما تبدل ذئبٌ بذئب وتبدلت نِعاجٌ بنعاج.
عَودٌ على بدء: قبل ثلاثة أرباع القرن كانت بلدان الشرق العربي المسلم تعاني من احتلال دول الغرب المعتدية الظالمة. يومَها ظنّ قومٌ منّا أن الحقوق تؤخَذ على طاولات المفاوضات، فقال لهم الرافعي كلمته العظيمة: “إذا كانت المشكلة بين الذئب والحمل فلن يكون حلّها إلا من أحد اثنين: إما لحم الخروف، أو عصا الراعي”.
يا أهل سوريا الكرام: اختاروا بين اثنين لا ثالث لهما: إما طريق الجهاد (عصا الراعي) أو طريق المفاوضات والمؤتمرات، وخسارة الحرية والكرامة والتضحية بحقوقكم وحقوق الأولاد والأحفاد (لحم الخروف). ولنا في إخواننا في فلسطين عبرة.