حين تطرق أسماعنا كلمة “التطرف” في هذه الأيام. يتبادر إلى الذهن منها سيل الاتهامات الذي توجهه الدعاية الغربية للمسلمين “الأصوليين، الإرهابيين..” إلى غير ذلك مما تلوكه ألسنتهم، وتحفل به قواميسهم. (وما تُخفي صدورهم أكبر).
وهذا المعنى ليس هو المراد من مقالنا هذا، وإن كنا سنقف عنده قليلاً، لأنه اصطلاح العصر، ولأن الرابط بينه وبين المعنى الآخر رابط قوي.
المعنى الذي نقصده من هذا المقال هو الانحراف النفسي الذي يحيد بصاحبه عن الاعتدال، ويجعله يغلو في تفكيره وسلوكه.
وإذا تحدثنا عن التطرف السياسي أو غيره فلنسأل أولاً عن معيار الاعتدال حتى نصف الذين يحيدون عنه بأنهم متطرفون.
وهذا المعيار إما أن يكون إحصائياً. بمعنى أنّ ما عليه أكثر الناس هو الاعتدال. وما فارقه فهو التطرف. وهو معيار مضلّل. إذ أين هي الجهة العادلة التي تُحصي مواقف الناس واتجاهاتهم، فتقول: هذا توجّه الأكثرية، وتلك توجهات المتطرفين؟!، وإن الواقع يقول: من يملك الصوت الأعلى والسطوة والجبروت هو الذي يخوّل نفسه حق التكلم باسم الأكثرية، وهو الذي يملك أن يحكّم هواه ثم يقول: إنه حُكم الجماهير.
ولو استطعنا فعلاً أن نعرف ما عليه أكثر الناس، ونعتبر المخالفين متطرفين، إذاً لكان الأنبياء والمرسَلون – عليهم الصلاة والسلام – وكذلك الدعاة والمصلحون… كلهم متطرفين بهذا المقياس، فإنهم جميعاً قد جاؤوا بأمور تنكرها أعراف الناس!!.
وما أعظم قول رب العالمين: (وإن تُطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله).
وإذا بطل المعيار الإحصائي، فلا بُدّ من معيار موضوعي يعلو فوق الهوى. ويبرأ من الجهل والضعف.. ولن يكون هذا المعيار إلا دين رب العالمين. ويكون الإنسان المعتدل هو الذي يصوغ فكره وسلوكه وفق هذا الدين، ويكون الأكثر اعتدالاً هو الأشد التزاماً بهذا الدين، ويكون المتطرف هو الحائد عن هذا الدين، ويزداد التطرف بازدياد الحيدة عن الحق والميزان اللذين نزل بهما كتاب الله تعالى.
والداعي إلى دين الله، والساعي إلى إقامة شرعه في الأرض، والمجاهد في سبيله… ليس متطرفاً، بل هو العدل وهو المعتدل.
وحتى نُعرّج إلى الموضوع الأساس، وهو الاعتدال في الأحكام، نقرأ قول الله تبارك وتعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)، وقوله سبحانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). فالكتاب هو المرجع الأساس. والميزان هو العدل والإنصاف في نفس المؤمن الذي يتولى إقامة الأحكام، فإذا احتكم الناس إلى الكتاب وتحرّوا النزاهة والعدل، ساد الأمن في حياتهم.
والاحتكام إلى دين الله أمر محسوم في الصف الإسلامي، وأما تحرّي العدل ففيه تدخل الأهواء، وفيه يصول الشيطان، وبسببه يحدث الابتعاد عن سواء السبيل والوقوع في التطرف. وهنا يحسن أن تسأل نفسك: هل أنت متطرف؟!.
ونسوق بعض نماذج توضح أشكالاً لما نعنيه بالتطرف.
فمنها نموذج الفرد الذي يحدّد ولاءه لزعيم، وينتصر له في كل وقت وظرف، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ويعتبره الممثل الشرعي الوحيد للدعوة.. فانتماؤه للدعوة هو انتماؤه لهذا الزعيم.
ومنها نموذج الذي يُكثر الاتهام والتشكيك، ويتصيّد أخطاء المسؤولين، ويصف الدرك الذي وصلت إليه الأوضاع مدة توليهم المسؤولية، ويزرع اليأس من كل محاولة للإصلاح.. ثم يتوقف عن كل ذلك، وقد يهلّل للتحسن الهائل، والانطلاقة الجديدة.. إما لتغير علاقته مع المسؤولين، أو لأنه أصبح في موقع المسؤولية!.
ومنها نموذج الذي يُشتَهر بحبه لرجل معين، وبعلاقته الحميمة معه… لكنه يتغير قلبه، ويصبح عدواً لدوداً لذلك الرجل، يجاهره بالعداء، ويستغل ما عرف من أسراره في فترة مودته، للتشهير به… وربما اعتذر عن سابق مودته بأنه كان يجهل كل ذلك عنه.
ونموذج الذي يصنّف الناس إلى فريقين: فريق معه، يزدان بكل فضيلة، ويبرأ من كل ضعف ورذيلة… وفريق ليس معه، فهو ضده، وهو يخلو من كل خير!. ويتجاهل الفروق الفردية، وأن الناس ليسوا مقسومين بهذه الحدّية، وأن أفراداً ممن هم معه ربما كانوا أقل مزايا من نظائرهم في الفريق الآخر، لكن حبه وبغضه وهواه… جعلتهم في هذا التصنيف أو ذاك.
ونموذج الذي يرشّح نفسه أو غيره، لتحمل مسؤولية، أو شغل منصب، ويصف هذا المرشح بأنه رجل المرحلة، والأمل الوحيد… وأن من لم يؤيد ترشيحه فهو آثم شرعاً، أو مقصّر تنظيمياً، أو مطعون في ولائه.
إلى غير ذلك من النماذج التي لا نعتبرها ظاهرة عامة. لكننا لا ننكر وجودها، ولا ننكر أنها من أمراض النفوس التي تكمن وراء التطرف.
وما دمنا نحلل سمة التطرف فلنذكر الصفات النفسية والاجتماعية التي تصاحبه، حتى لا يلتبس التطرف المذموم بالتمسك بالحق والهدى.
وأبرز هذه الصفات ثلاث:
أولها الجهل:
فكثير من المواقف المتطرفة تظهر في صورة أحكام عامة، وهي مبنية على معلومات قاصرة مجتزأة. كالذي يبني نظراته عن شعب كامل، على احتكاكه بأفراد قلائل من هذا الشعب، أو يبني توجهه في الحياة على فهمه لنص مفرد من بين مجموعة واسعة من النصوص، لو اطّلع عليها جميعاً لاتّزن موقفه واعتدل.
وثانيهما التصلب في التفكير:
فقد تكون المعلومات متاحة أمام الفرد، لكنه يتخذ موقفاً متطرفاً، نتيجة سمة عامة في تفكيره هي التصلب، الذي تقابله سمة المرونة. والتصلب يعني القصور عن التكيف مع تغيرات البيئة والظروف، ومع تنوع المواقف، واختلاف الأفراد مما يجعل التفكير متخلفاً قاصراً.
وترتبط بصفة التصلب مجموعة من الصفات التي تدل على تشوه الشخصية:
فالفرد المتصلب مؤهل للتطرف في مواقفه، وقد يتطرف في جانب، ثم يتطرف في الجانب المقابل، يدعو إلى الفكرة، ثم إلى نقيضها، ويحب فلاناً ويغلو في حبه، ثم ينقلب عليه ويبالغ في خصومته.. لأنه لا يبني مواقفه على اعتبارات موضوعية. والفرد المتصلب تسلطي، يميل إلى فرض وجهة نظره على الآخرين، من غير حجة ولا سلطان مبين.
والفرد المتصلب لا يستطيع أن يفهم وجهات نظر الآخرين، أو أن يضع نفسه مكانهم، أو أن يستفيد من خبراتهم…
وثالثها: التعصب الاجتماعي:
وهو يعني أن يكون سبب التطرف هيمنة قيم محددة لمجتمع محدد، فيعتبر الفرد أن قيم هذا المجتمع وقناعاته ومواصفاته هي الحق كله. ويقوّم مواقف الآخرين من منظور مجتمعه الضيق، مع أن لكل فرد صفاته وخصوصياته، كما أن لكل مجموعة صفاتها وخصوصياتها… وإلغاء هذه المزايا وتطبيق الأحكام الجزئية على الناس كافة، مع إغفال تلك الخصوصيات يعدّ تعصباً اجتماعياً، وتطرفاً غير محمود.
والتعصب يظهر بأشكال مختلفة، وقد يختفي وراء بعض الدعاوى. فادعاء فئة ما، داخل مجتمع، أنها متميزة، قد يكون تعصباً، وفرض فئة لقيمها وثقافتها على فئات أضعف منها، بحجة الانفتاح والتطوير، قد يكون ناشئاً عن التعصب.
وبملاحظة علاقة التطرف بهذه الصفات يتضح ارتباطه بالعواطف الحادة التي تفقد الرؤية الصحيحة، على مستوى الفرد، وبأجواء الصراعات والفتن، على مستوى المجتمع. لهذا كان الفرد المتطرف سهل الانقياد أمام أصحاب الأهواء ومثيري الضغائن، ووقوداً سريع الالتهاب لإتلاف الأواصر وتدمير المجتمع.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نضلّ أو نُضلّ، أو نزلّ أو نُزلّ، أو نجهل أو يُجهل علينا.