مجزرة حماة 2 شباط 1982م
في البدء كانت المجزرة… المجزرة وليست الحرب الأهلية
( في البدء كانت المجزرة ) العنوان الأليق بمرحلة من تاريخ سورية الحديث منذ الثامن من آذار 1963 وما تزال. في البدء كانت المجزرة بمرتسماتها الاجتماعية والسياسية والعملية بكل ما فيها من دم وأشلاء وضحايا وآلام وتداعيات وآثار
منذ الثامن من آذار 1963، التي اقترنت بسيطرة مجموعة من الضباط الطائفيين المغامرين على مفاصل الدولة السورية تحت غطاء من حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي لم يكن سوى خيمة للجريمة المجزرة وما يزال.منذ الساعة الأولى للانقلاب العسكري انطلقت بلاغات إعدام المرتكزات للحياة العامة في سورية: أُعلنت حالة الطوارئ، أُغلقت الصحف، حُلت الأحزاب، كُممت الأفواه، حُرّم على خمسة سوريين الاجتماع، ولوحق رجال الدولة والمجتمع، ورجال الرأي والفكر ؛ فكانت المجزرة الاجتماعية والسياسية الكبرى، المجزرة المؤسسة لكل ما حدث بعدها من مجازر وتداعيات..
و(في البدء كانت المجزرة) وكانت المجزرة السياسية والاجتماعية، بأبعادها وما اقترن بها من طائفية نتنة ومن استئثار مقيت ومن فساد نخر بنية المجتمع وما رافقها من عدوان وكبت وقهر وظلم، هي المجزرة الأولى المؤسسة لكل ألوان وأشكال المجازر التي تواطأ المجتمع الدولي في التستر عليها، وفي الاستثمار فيها، ولاسيما على صعيدها الوطني بسلخ الأرض الوطنية في مجزرة الهزيمة (المؤامرة) في الخامس من حزيران، الهزيمة التي أعطت لحافظ الأسد ولذريته من بعده هذه المكانة وهذا الإمكان..
(في البدء كانت المجزرة) وقبل أن تدوس جنازير دبابات حافظ الأسد أرض حماة شهدت الحياة العامة السورية فصولا من المجازر في ذبح المجتمع المدني، وفي فصم عرى المجتمع الأهلي، وفي مصادرة حقوق السوريين في التعبير أو في الاحتجاج ولو في شكل مظاهرة أو في إعلان إضراب. وكانت بين عامي 1963 – 1982 سلسلة من المجازر قُتل فيها أبرياء، واعتُقل أحرار، وشُرد مفكرون، واستُبيحت حرمات، وعُذب الناس في السجون حتى الموت بطرق لم يجرؤ على التفكير بها نازي ولا فاشي، وذُبحوا وأعدموا بالآلاف في السجون كما في مجازر سجن تدمر المتطاولة على مدى عشر سنين…
لم يميز الجزار فيما يرتكب من مجازر بين سوري وآخر فقتل واعتقل السوريين تحت كل العناوين، قتل واعتقل العربي والكردي، والمسلم والمسيحي، والسني والعلوي والدرزي والإسماعيلي، واليميني واليساري والإسلامي والعلماني… قتل واعتقل وشرد كل من قال له: كيف ؟ أولم ؟ كما قتل كل من قال له: لا..
(في البدء كانت المجزرة )، إن ما جرى في مدينة حماة الأبية في الأسبوع الأول من شباط سنة 1982، لم يكن إلا حلقة في سلسلة من الحلقات عاشتها الأرض السورية وما تزال منذ نصف قرن على عين من الناس. وإن ما شهدته مدينة حماة في الأسبوع الأول من شهر شباط سنة 1982 لهو أكثر فظاعة وأشد هولا من أن يصفه أو يحيط به أو يستنكره بيان..
ولو جمعنا كل ما كتبه المؤرخون وما قاله الأدباء والشعراء عن فظاعات الغزاة في التاريخ الإنساني وهمجية القتلة والمجرمين في كلمة لتصاغرت عما ارتكبه حافظ الأسد ورجاله المجرمون بحق المدنيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، بل في حق الإنسان والحضارة والعمران..
كانت مجزرة حافظ الأسد في حماة الأسبوع الأول من شباط 1982 المحطة الأفظع والأكبر في مسلسل المجازر في القرن العشرين، مسلسل المجازر الذي أُعطي هؤلاء الجزارون الرخصة الدولية لارتكابها كما يعتقد الكثير من السوريين إزاء ما تابعوا وما يتابعون من صمت بل من تواطؤ دولي يغمس أصحابه في الدم والقتل..
وإننا اليوم حين نقرن المجزرة الكبرى للقرن العشرين بما تلاها من مجازر القرن الحادي والعشرين يرتكبها الجزار بمساندة من المتواطئين معه وبغطاء من الساكتين عليه في كل مدينة وبلدة وحي في سورية ندرك أن المجزرة لم تكن نزوة عابرة أو ردة فعل طاغية وأن مجازر الإبادة التي تنفذ على الشعب السوري هي نهج وسياسة مقرة ليس فقط من مرتكبيها وإنما أيضا من داعميهم ومن الساكتين عليهم أيضاً..
(في البدء كانت المجزرة) والمجزرة في حياة السوريين ليست ذكرى إن المجازر في حياة السوريين بكل أشكالها واقع يومي مستمر ومعاش. إن على الذين يراهنون على ذاكرة شعبنا أن يستعيدوا دراسة نفسية هذا الشعب الحر الأبي. عليهم أن يتعلموا أن الدم في ثقافتنا بل في كينونتنا ليس ماء ولا يمكن أن يكون.
لم تصبح مجزرة حماة في القرن العشرين، كما راهنوا عليها، ذكرى، ولن تصبح مجازرهم هذه على كل الأرض السورية في القرن الحادي والعشرين ذكريات..
المشهد قائم أمام أعيننا جميعاً، مشهد الدم ينهمر شلالا من أوداج الأطفال، مشهد بطون الحبالى بقرتها حراب الجزارين، مشهد الرؤوس المقطوعة والأشلاء المبعثرة، رائحة الموت ينشره غاز السارين جثثا مبعثرة على أرض غوطتنا الدمشقية الجميلة ماثلة تملأ أنوفنا، صور وجوه أطفالنا تحت أنقاض البراميل المتفجرة يرميها مجرم ستظل عالقة بأبصارنا.. وفي آذاننا لا تزال صرخات الاستغاثة، صرخة حرة أبية تستثير النخوة، بكاء طفل صغير يستعطف، نداء شيخ واهن يذكّر بما كان وبما يجب أن يكون، الصرخات كلها حاضرة حارة قوية مدوية، صرخات لا يلاشيها الزمن المتطاول مهما امتد بل يجعل ذبذباتها أشد على مسامعنا وأقسى..
المجازر في سورية ليست جناية حرب أهلية كما يزعمون. المجتمع السوري المتحضر لا يقتل أبناؤه بعضهم بعضاً. المجازر في سورية هي بنت عقول مريضة ونفوس مصابة بجرب الكراهية تنفذها عصابة من القتلة والمجرمين.
إن الذي نخاف ونرفض ونحذر أن تتحول المجازر الممنهجة التي ينفذها المجرمون إلى حرب أهلية. نخاف ذلك لإدراكنا لخطورة الوهدة التي يُدفع السوريون إليها. ونرفضه لأن شريعتنا وحضارتنا تأبى، شريعتنا شريعة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وحضارتنا حضارة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا). ونحذر منه لأننا ما نزال متمسكين بمستقبل زاهر لعيش مشترك بالعدل جميعا يظللنا..
أمام هول المجازر التي كانت وهول المجازر التي قد تكون نحن حاضرون ومرابطون، وشعبنا القادر دائماً على أن يتسامى لا ينسى. عليكم ألا تنسوا أنتم أن شعبنا يتسامى ولكن لا ينسى..