بعد نشر أي مقالة يتلقى الكاتب رسائل عديدة، مادحة أو عكس ذلك. وأختار رسالتين وصلتا تعليقاً على مقالتي السابقة بعنوان (سأخبر الله بكل شيء).
الرسالة الأولى تقول: (إن الله عليم خبير وليس في حاجة لمن يخبره، رجاء حسن الأدب مع الله، “وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِه، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”، “وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى”). وقد أجبت مرسلها قائلاً (أشكرك عزيزي على هذه النصيحة الغالية، وأرجو أن يتسع صدرك لكلمات بسيطة. أولها أن العبارة وردت على لسان طفل، ولم ترد على لسان عالم. لكن يبدو أن هناك مشكلة في اللغة العربية. فأنا فهمت من العبارة الشكوى، ولم أفهم منها شيئا آخر، مصداقا لما ورد في الكتاب الكريم: “إنما أشكو بثي وحزني إلى الله” كما قال يعقوب عليه السلام.
والشكوى لغير الله مذلة. وهذه عبارات وردت على لسان الصحابة في أحاديث صحيحة فكيف يكون تفسيرها: “غاب عِمِّي أنسُ بنُ النضرِ عن قتالِ بدرٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ، غبتُ عن أولِ قتالٍ قاتلتَ المشركينَ، لئن اللهُ أشهدني قتالَ المشركينَ ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنعُ”. “حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين”. وهذه عبارة وردت في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: “اللَّهمَّ إن تهلِكْ هذه العصابةُ لا تُعبدْ في الأرضِ”. وهذه الأمثلة التي أوردتها تدل على أن اللغة العربية تحتمل معاني كثيرة قد لا تخطر بالبال أحياناً. والله أعلم).
وتقول الرسالة الثانية: (أن يتحول شعب كامل إلى أرقام… مقطع من مقالك يا دكتور محمود. كيف استطاعت يداك أن تسطّر واقع الأطفال في المخيمات بدون ضجيج أو صراخ؟ أهنئك على إدارتك لمشاعرك وأنت تعرض مصير الطفولة في زمن الإجرام الذي مزّق الكرامة وداس على الإنسان في داخل الأطفال. عفواً، فأنا لا أملك إلا الدموع والدعاء والدعم. وغداً سأحكي لأطفالي كيف عاش أطفال شامنا ظلماً). فأجبته: (لا تظنّن أن دموعي لا تنزل وأنا أكتب. بل إنها تنهمر أحياناً، لاسيما وأنا أب وجد. وإذا أردت أن تذرف دموع الأبوة فاقرأ قصيدة الشاعر عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله بعنوان: أب. فأنا أتحدى أن يقرأها شخص سوي ولا يذرف الدموع).
والقصيدة التي أشرت إليها يقول الشاعر في آخرها بعد أن ودّع أولاده في سفر:
دمعي الذي كتمته جَلَداً *** لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا *** من أضلعي قلبا بهم يجبُ
ألفيتني كالطفل عاطفةً *** فإذا به كالغيث ينسكبُ
قد يعجب العُذّال من رجلٍ *** يبكي! ولو لم أبكِِ فالعجبُ
هيهات ما كل البُكا خَوَرٌ *** إني – وبي عزمُ الرجالِ – أبُ
فهل يمكن لإنسان أن يرى ما يحصل لأطفال سوريا ولا يذرف الدمع؟ وهل يمكن أن يقرأ الإنسان خبراً يقول: (خمسة آلاف طفل سوري لجؤوا للدول المجاورة دون ذويهم)، ثم لا يتصور ما الذي يمكن أن يحدث لولده لو كان بينهم؟ لاسيما وأن الخبر يقول (هؤلاء الأطفال وصل معظمهم “بملابسهم فقط”، وبعضهم اضطر للمشي أياما حتى وصل إلى نقطة اللجوء. وأن نحو 5.6 ملايين طفل سوري يشكلون نسبة 60% من أطفال سوريا باتوا بحاجة للمساعدات الأساسية المنقذة للحياة مثل لقاحات الأطفال وتوفير التدفئة. وأن نحو ثلاثة ملايين طفل سوري مهددون بالأميّة لأنهم لا يلتحقون بالتعليم بشكل منتظم، وأن جيلا كاملا من أطفال سوريا “على حافة الضياع”، وأنهم بحاجة للدعم النفسي لأن معظم حديثهم منصب على الموت أو القتل، وأن تعبيراتهم عبر الرسم تحوم حول الموت، والألوان التي يستخدمونها قاتمة وغالبا سوداء أو حمراء، وتحتوي على الجثث والقنابل والأسلحة، وأنهم بحاجة لإعادتهم إلى طفولتهم التي فقدوها…).