عجب أنصارُ داعش الجاهلون بحقيقتها من بركان الغضب الذي انفجر في سوريا ضدها، فإنهم لم يعلموا من الحقيقة إلا ما أرادته لهم داعش أن يعلموا، وما يزالون يحسنون الظن بها فيحسبون أنها جماعة مجاهدة جاءت إلى سوريا للمساعدة في تحريرها من الاحتلال النصيري. ما علموا أنها جاءت لتحتل البلاد وتنشئ فيها مشروعها المشبوه، وأنها لا تختلف عن النظام إلا بالاسم والشعار، فهي قوة احتلال كما أن النظام قوة احتلال، ومشروعها هو ابتلاع سوريا وإخضاع السوريين كما أن مشروع النظام هو ابتلاع سوريا وإخضاع السوريين، سواء بسواء.
عندما وصلت داعش إلى سوريا كان السوريون قد أمضوا في الجهاد سنتين تمكنوا خلالهما من تحرير ثلثَي الأرض السورية، وكان ينبغي أن تضع داعش اليدَ في اليد وترصّ الصفوفَ مع الصفوف فتساعد على تحرير الثلث الثالث، وهو الأصعب لأن النظام سحب صفوة قواته إليه وركزها فيه، ولكنها لم تفعل.
لقد تجنبت داعش المواقعَ والمدن التي يحتلها ويحاصرها النظام وبدأت بالالتفاف على المجاهدين من الخلف؛ عملت على إعادة احتلال المناطق المحررة بخطة منهجية، مستغلّةً حسنَ ظن السورين بها وتورعهم عن الاشتباك معها، فنجحت في اجتياح واحتلال قسم كبير من الأراضي المحررة خلال أربعة أشهر، وكادت تبتلعها كلها لولا أن الله أراد بسوريا والسوريين خيراً، فثَمّ كان الانفجار.
هذه المقالة تسرد الحكاية الكاملة لمحاولة داعش احتلال سوريا، وهي موجَّهة إلى ثلاثة أنواع من الناس: إلى المجاهدين الذين عرفوا حقيقة داعش وتحققوا من بغيها وعدوانها فقاتلوها قتال البغاة المعتدين، لكي يعلموا أنهم على حق ويَثبُتوا في مواقعهم حتى يكفّ البغاة عن بغيهم ويتوقفوا عن عدوانهم ويفيئوا إلى حكم الله. وإلى المجاهدين الذين اعتزلوا القتال وتركوا إخوانَهم وحيدين في الميدان، ليعلموا أنهم مقصّرون آثمون بالخذلان، وأنهم الهدف القادم للبغاة المعتدين، وأنهم لا مناصَ لهم من نصرة إخوانهم حتى لا تتكرر مأساة الثورة الأبيض التي ما تزال تتكرر في تاريخنا بلا توقف منذ دهر طويل. وإلى جماعات من الناس -من السوريين ومن غير السورين- ما يزالون غافلين عن خطر مشروع داعش على الثورة السورية وعلى جهاد أهل الشام، عسى أن تنكشف لهم الحقيقة ويظهر الحق ويَبطل سحرُ السحَرة والمشعوذين.
1- لن أبدأ الحكاية من سوريا قبل شهور، سأبدؤها من الهند قبل قرون. هل تعرفون كيف احتلت بريطانيا القارةَ الهندية؟ لقد احتلتها بطريقة عجيبة تشبه إلى حد بعيد الطريقة التي اتبعتها داعش في احتلال سوريا. لم تعلن الحرب ولم تسيّر الأساطيل ولم ترسل الجيوش، بل فتحت شركة تجارية، ثم تمددت الشركةُ حتى أكلت الهندَ كلها!
أسس الإنكليز في مطلع القرن السابع عشر شركة تجارية اسمها “شركة الهند الشرقية” وحصلوا على إذن من إمبراطور الهند بافتتاح مركز لها في ميناء سورت في الكُجُرات، ثم حصلوا على تراخيص بفتح فروع للشركة في عدة موانئ أخرى، ثم في مدن داخل البلاد، وما زالت تلك “الشركة” تتوسع وتنتشر حتى غطت مراكزُها القارةَ الهندية كلها. تحولت الشركة ببطء وخبث شديدَين من كيان تجاري إلى كيان سياسي عسكري، وبدأت بالتدخل في السياسة المحلية في الأقاليم واستغلال النزاعات المحلية بين الأمراء، ثم تدخلت في سياسة الإمبراطورية نفسها، وأسست جيشاً حاربت به الهولنديين والفرنسيين الذين كانوا ينافسون بريطانيا على النفوذ في بلدان الشرق، ثم حاربت جيوشَ الإمبراطورية وكسرتها واحتلت الهند كلها.
2- إن ما صنعته شاهش (شركة الهند الشرقية) قبل قرون يشبه ما صنعته داعش مؤخراً: احتلالٌ بالمكر والغدر والخديعة وباستغلال طيبة الطرف الآخر وسذاجته. جاء القوم إلى سوريا زاعمين أنهم لا يريدون شيئاً سوى مساعدة أهلها المساكين، ففتح لهم السوريون أبواب البلاد. كان ينبغي أن يذهبوا إلى الجبهات لقتال العدو، ولكنهم تركوها وذهبوا إلى القرى والبلدات المحرَّرة فاشتغلوا بإلقاء الخطب وتوزيع المطويّات وتنظيم المهرجانات والاحتفالات! ثم قالوا: نحتاج إلى مقرّات، فوهبهم الناس بيوتاً سكنوها واتخذوا منها مقرّات.
ثم بدؤوا يقيمون حواجز داخل المدن وفي مداخلها وعلى الطرق التي تصل بينها، وما لبثوا أن بدؤوا يضايقون الناس فيتدخلون في حياتهم ويفرضون ما يشاؤون من القوانين ويتعقبون من يخالفهم بالاعتقال والاغتيال، ثم سَفَروا اللثام عن الوجه القبيح فبدؤوا بقتال الكتائب المحلية، وراحوا يطاردون الإدارات المدنية والمنظمات الإغاثية والطبية والإعلامية، وكلما أحكموا سيطرتهم على منطقة انتقلوا إلى المنطقة التي بعدها، فما مضت عليهم خمسة أشهر إلا وقد احتلوا مئات المواقع (المحرَّرة) في شرق وشمال البلاد، وبدؤوا بالزحف على الوسط والجنوب.
3- الخطأ الأكبر الذي يرتكبه المدافعون عن داعش هو أنهم يحسبونها فصيلاً من الفصائل التي تقاتل النظام لتحرير سوريا، وبسبب هذا الوهم فإنهم ما يزالون يرددون تلك الجملة التي حفظناها غيباً: يجب أن تتحدوا الآن لقتال النظام وتحرير سوريا، وبعدها لكل حادثة حديث.
لا يا سادة، لا يصلح أن نستمع إلى نصيحتكم لأنكم لا تعرفون الحقيقة. إن داعش لم تأت إلى سوريا لقتال النظام وتحرير سوريا، لقد جاءت داعش إلى سوريا بمشروع، ولئن بدا لكم أن مشروعها هو مشروع الثورة نفسه فإنكم واهمون، فإنها لا تبالي بالأسد ولا بنظامه ولا باستقلال سوريا وتحرير السوريين من الأسْر والعذاب. بل إن هذه المصطلحات ذاتها لا تعني لها أي شيء، فما معنى الكرامة والحرية وما قيمة الشعب السوري وأي أهمية لحريته واستقلاله؟
إن لداعش مشروعاً واحداً لم تفكر في غيره منذ وطئت أرضَ الشام. إنها تريد “دولة”، وبما أن الأرض الواحدة لا تتسع لدولتين فإن المشكلة لا يمكن حلها إلا بأن يتنازل الفريق الآخر (الشعب السوري) عن مشروع دولته طوعاً أو كرهاً. طوعاً بالخداع والتمويه واستغلال شعارات الإسلام، أو كرهاً بالبارود والنار. الأسلوب الأول لم ينجح إلا مع أقلية لا وزن لها، وسرعان ما أدركت داعش أن الإكراه هو الأسلوب الوحيد الذي يوصل إلى الغاية، فبدأت بالحرب.
4- عندما وصلت داعش إلى سوريا كان السوريون قد أمضوا في ثورتهم سنتين، وقد حرروا قسماً كبيراً من الأرض السورية وأقاموا عليه إدارات مدنية وعسكرية بديلة عن النظام، فلم يكن لداعش بُدٌّ من اختيار واحدة من ثلاث: إما أن تستسلم وتتخلى عن مشروعها، أو تنطلق إلى الأراضي غير المحررة فتحررها وتقيم عليها مشروعها، أو تحتل الأراضي المحررة لتحقيق ذلك الهدف.
لم ترد داعش أن تتخلى عن المشروع، ولم تكن مواجهةُ النظام خياراً مطروحاً لأن القدرات العسكرية التي تملكها داعش أقل منه بكثير (وربما لأسباب أخرى يعلمها الله)، فاختارت الحل الثالث.
إذا أراد المرء أن يقيم بناء على أرض فإن الأرض ينبغي أن تكون خالية من البناء، ولو كانت معمورة فإن أول ما يبدأ به هو إزالة البنيان القديم، وهذا ما صنعته داعش. بدأت بعملية “تجريف” منظمة لاجتثاث البناء الثوري -العسكري والمدني- الذي أنشأه الثوار في المناطق المحررة خلال عامين، فاغتالت واختطفت عدداً من القادة وهاجمت الكتائب الصغيرة وقضت على كثير منها، ولاحقت واعتقلت كثيراً من الإعلاميين ودمرت كثيراً من المؤسسات الإعلامية الثورية، وضايقت الأطباء والإغاثيين واعتقلت وقتلت عدداً منهم، ونجحت في إعاقة أعمال المنظمات الإغاثية في مناطق عدة وفي تخريب وإقفال عدد من المستشفيات الرئيسية والمشافي الميدانية، واصطدمت مع الهيئات الشرعية وطاردت واعتقلت كثيراً من الدعاة والقضاة والمحامين.
بالنتيجة تفكك البنيان الثوري في المناطق التي احتلتها داعش، وامتلأ الجنوب التركي بآلاف من أحرار سوريا الذين فضّلوا الانسحاب من الميدان الثوري على التعرض للقتل أو الملاحقة والاعتقال والإهانة والتعذيب في سجون دولة البغدادي، التي شهد المجرّبون العارفون بأنها لا تقل سوءاً عن سجون النظام السوري.
5- سأعود قليلاً إلى الوراء، إلى بداية الرواية. في التاسع من نيسان 2013 بثّت شبكة “شموخ الإسلام” رسالة صوتية أعلن فيها البغدادي جمع “جبهة النصرة” وتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” في تنظيم جديد باسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (الذي عُرف بعد ذلك بالاسم المختصر “داعش”).
في اليوم التالي أصدر أمير النصرة الجولاني بياناً صوتياً ردّ فيه على البغدادي وأصرّ على فصل “النصرة” عن “دولة العراق” رافضاً الدمج المقترَح، أما الظواهري فقد كان رد فعله بطيئاً جداً ومتأخراً عن مواكبة الأحداث، فأصدر بياناً بعد شهرين (9/6) بحلّ الدولة وبقاء الأمور على ما كانت عليه. لم يكن البغدادي كالظواهري بل كان ردّه سريعاً، فقد أصدر بعد ستة أيام (15/6/2013) كلمة يقول فيها: “الدولة الإسلامية في العراق والشام باقية ما دام فينا عرق ينبض أو عين تطرف، ولن نساوم عنها حتى يظهرها الله تعالى أو نهلك دونها”.
علّق كثير من الكتّاب على كلمة البغدادي تلك بما شاء الله لهم من الدَّرْس والتحليل، أما أنا فإنني أعتبرها “إعلان حرب” على السوريين ومسوَّدة “مشروع احتلال سوريا”.
6- وقع الانشقاق المتوقع في صفوف النصرة فانحاز نحو ثلثَي مقاتليها إلى التنظيم الجديد، ويبدو أن غالبية المقاتلين غير السوريين (الذين يُدعَون مجازاً “المهاجرين”) كانوا من ذلك الفريق، بالإضافة إلى العناصر الأكثر غُلوّاً من السوريين، وبدؤوا على الفور بمهاجمة مقرات ومستودعات جبهة النصرة فاستولوا على قسم كبير منها.
في الشهر التالي انتقل البغدادي إلى سوريا، فنشر دعاته في المعسكرات والجبهات وبدأ بتوسيع التنظيم وجمع البيعات وشراء وتكديس السلاح. كانت الأموال كثيرة، كثيرة جداً، ولم يسأل أحدٌ من أين تأتي، وراحت داعش تشتري كل سلاح في الأسواق مهما غلا الثمن، من “الروسيّة” إلى الدبّابة، مما تسبب في ندرة الأسلحة وارتفاع أسعارها، فعجزت كثير من الجماعات المقاتلة الأخرى عن شرائها وتعطل القتال في كثير من الجبهات.
تدفق المقاتلون من وراء الحدود فدخل آلاف منهم إلى سوريا قادمين من العراق أو منتقلين عبر الأراضي التركية، وفيما كان الثوار منشغلين بالمعركة الحاسمة مع النظام في عمق البلاد، من حلب شمالاً إلى درعا في الجنوب، كانت داعش منهمكة في بناء قاعدتها الصُّلبة في المحافظتين الشرقيتين البعيدتين، الرقة ودير الزور، فنجحت خلال ثلاثة أشهر في إنشاء قوة ضاربة تتكون من عدة آلاف من المقاتلين المزودين بكميات كبيرة من الأسلحة.
7- في أيلول 2013 كانت حمص قد دخلت في الشهر السادس عشر من شهور الحصار، وكان ينبغي على البغدادي أن يرسل جيشه من الدير والرقة باتجاه الغرب -إلى السخنة وتدمر وصولاً إلى ريف حمص الشرقي- لتحرير حمص وفك الحصار، ولكنه لم يفعل. بدلاً من ذلك قامت داعش بغزو مدينتَي الرقة والطبقة واحتلتهما عَنوةً، ثم انتشرت في أكثر مناطق ريف الرقة فأعادت احتلال المناطق التي حررها الثوار قبل ذلك بستة أشهر. والغريب أن داعش احتلت ما سبق تحريره من المدن والأرياف، ولكنها لم تقترب من المناطق الثلاث التي بقيت في يد النظام منذ تحرير الرقة: مطار الطبقة والفرقة 17 واللواء 93. لماذا؟ ما أكثرَ الأسئلةَ التي تبحث عن جواب!
خلال أسابيع قليلة أحكمت داعش سيطرتها على محافظة الرقة التي صارت قاعدتَها الرئيسية في الشرق، ثم بدأت بالانتشار في الحسكة ودير الزور، فخاضت مواجهات عنيفة مع الأكراد ومع كتائب الجيش الحر الكثيرة التي توجد في تلك المناطق واحتلت مساحات واسعة من أراضي المحافظتين، ولا سيما محافظة دير الزور التي صارت ولاية من ولايات “الدولة” المزعومة.
8- بعد ذلك بدأ اجتياح محافظتَي حلب وإدلب. استولت داعش على جرابلس والباب وعززت وجودها في منبج وإخترين وتل رفعت وحريتان ورتيان ودارة عزة، وحاولت احتلال مارع وعندان، ثم افتعلت حرباً مع عاصفة الشمال انتهت بالسيطرة على إعزاز.
وهكذا نجحت خلال عدة أشهر في احتلال أجزاء واسعة من الريف الشرقي والريف الشمالي لمدينة حلب، بالإضافة إلى سيطرتها على عدة أحياء في القسم المحرَّر من مدينة حلب نفسها. في الوقت نفسه كانت داعش تتمدد في الريف الإدلبي، فقد نجحت في احتلال الدانا وسلقين وسراقب وحارم وأورم، وهاجمت حزّانو وباتبو وعزّزت وجودها في بنّش وكللي، واتجهت أخيراً إلى واحد من أهم المعابر الحدودية وأكثرها حيوية للثورة، باب الهوى.
فشلت محاولة داعش للسيطرة على المعبر فارتدّت إلى الخلف واحتلّت أقرب البلدات السورية إليه، سرمدا. وهكذا اتصلت منطقة سيطرة داعش من الدانا إلى سرمدا وصارت الأتارب هي الهدف التالي، فتحركت أرتال داعش من حريتان لاقتحامها. الملاحظ أن بلدتَي الأعداء، نُبّل والزهراء، كانتا أقربَ بكثير إلى حريتان وأَولى بالحرب من الأتارب، البلدة المُسلمة التي يرابط فيها لواء أمجاد الإسلام، فلماذا تركتهما داعش في أمان وبدأت بقصف الأتارب بالمدفعية الثقيلة؟ الجواب الذي صار يعرفه عامة أهل سوريا بعد كل الذي كان: لأن داعش لم تنشأ لقتال الأعداء بل لقتال المجاهدين، ولم توجد لتحرير سوريا بل لإعادة احتلال المحرَّر من أراضيها.
كيف استطاعت داعش أن تصنع ذلك؟ كيف نجحت في خداع السوريين وعامة المسلمين؟ ماذا كانت الإستراتيجية التي اتبعتها وما هي الإستراتيجية التي ينبغي أن يتبعها المجاهدون لاتقاء شرها ومكرها؟ ما هي مسؤولية الجبهة الإسلامية وسائر الكتائب والجماعات المجاهدة؟ ما هي مسؤولية العلماء والدعاة؟ ستأتي الأجوبة في القسم الثاني من المقالة إن شاء الله.