أناس يفاوضون … وأناس يتفرجون !! تلك هي القسمة الضيزى
لم أحدد موقفا شخصيا من جنيف . لم أكن مع ولا ضد .
كتبت أكثر من مرة : الحمد لله الذي عافني من الفتوى في هذا المقام
وهي والله فتوى وأي فتوى تستحل بها الحرمات الدماء والأعراض أو تصان
وكتبت إن مسئولية هذه الفتوى تقع على عاتق الذين أوصلوا المعارضة السورية إلى هذا المربع الضنك …
واليوم حين أتابع المشهد يبقى قلبي مع الذين قرروا الذهاب أدعو لهم بالتوفيق إلى الخير ، أتفهم دوافعهم كما أتفهم كل النصائح السلبية التي قدمت لهم ، والاعتراضات التي طرحت في طريقهم . إن أبسط ما يمكن أن أؤكده في هذا المقام أنهم في اختيارهم الذهاب في الظرف الذي اختاروه فقدوا الكثير من مرتكزات شرعيتهم ، بل إنهم يذهبون بلا شرعية تمثيلية غير ما يمكن أن يكسبوه من طبيعة إنجازهم . لقد توقف الكثيرون عن منحهم اسمهم يفاوضون به : الائتلاف المنشق والمنشطر بمعنى أنه شقان وشطران ، والمجلس الوطني المنسحب – ولا أدري كيف – وجماعة الإخوان المسلمين التنظيم الوازن في الساحة السورية التي قالت لا واضحة لجنيف إلا بشروطها التي لم يتحقق منها شيء ..
سيستمد هؤلاء المفاوضون شرعيتهم إذن من قدرتهم على إثبات وجودهم ، وكسب المصداقية لمشروعهم حتى ولو كانت هذه المصداقية في جعل فريق بشار الأسد ينسحب . انسحاب وفد بشار بكل ما فيه من عدمية وسلبية سيكون نصرا مؤزرا لهم إذ يكفيهم نصرا أنهم سجلوا للثورة موقفا إيجابيا وكشفوا كذب الفريق الآخر وادعاءه ..
ولكن ماذا على الطرف الآخر من المعادلة ؟! ماذا بالنسبة للفريق الذي قال : ( لا ) لجنيف وللمفاوضات ؟! أين هي بدائله ؟! وبأي شغل يشتغل حين يقرر أولئك الذين وصفهم بالمفرطين والمغرورين والخارجين على ثوابت الثورة أن يمارسوا قناعاتهم ..
إن مجلس المتفرج على الممارسة ( السياسية أعني ) هو مجلس العاجزين . وسواء كان المتفرج مشجعا أو متلمظا أو متربصا أو منتقدا عيّابا فهو في كل الأحوال يحكم على نفسه بالعجز وسوء الاختيار ..
أتابع بعض المتفرجين والملهوفين على ما فاتهم من ( إثبات حضور ودور ) يتخوفون على ضياع مكان أو مكانة ، وبئس المكان وبئست المكانة اللذان يصنعان في جنيف أو يستمدان عصب قوتهما منها . إن الذين يتخوفون على ضياع دورهم في وطنهم أو في ثورتهم هم أولئك الذين لم يستطيعوا خلال السنوات الطوال أن يُمسكوا بعصب السيادة الحقيقي : سيد القوم خادمهم. يتخوفون على دور يُعطى من الروسي والأمريكي ولا يجاهدون من أجل دور يؤخذ بالعمل الصادق الجاد الصائب والدؤوب .
حين تقدم الكثيرون بالاعتراض على الذهاب إلى جنيف كان من مفاصل اعتراضاتهم أنهم سيغرقون الثورة السورية هناك – لا فروف أو المعلم أو الإبراهيمي – ولا فرق ، في التفاصيل الصغيرة المملة على حساب دماء السوريين وحساب وقت الثورة وجهدها ، وكانوا في هذا على كثير من الصواب ومقتضى هذا أنهم اليوم قد أداروا ظهرا للفيلم الممل المعاد المكرور وشمروا عن ساق وساعد وتنادوا :
هذا أوان الشد فشدوا … والقوس فيه وتر عرد
لا بد مما ليس منه بد
يحاول بعض الذين حيل بينهم وبين ما يشتهون من صدر وصورة ، أن يستحضروا تجارب التاريخ تقريعا وتوبيخا لمن خاف من مراقصة وليد المعلم فيذكرون تجارب شعبنا في العراق مع بريمر ، أو تجاربنا يوم صنع الاستقلال ، والاستفادة من دروس التاريخ حق على العقلاء . ولكن التجارب لا يقتنص طرف من أطرافها أو عنصر من عناصرها دون بقية العناصر والأطراف ..
نحن اليوم في سورية أمام تجربة تاريخية تكاد تكون فريدة في تاريخ قطرنا ومنطقتنا، تجربة أعيت بشار الأسد وكل أدوات سلطته ومرتكزات قوته ، كما أعيت الإيرانيين بكل حقدهم ومكرهم ، والروس بكل خبرائهم وعتادهم ؛ ولا أريد أن أضيف ولو أضفت لما كنت مخطئا أو ملوما . لأن كل الداعين إلى جنيف يريدون لهذه الثورة : احتواء وليس انتصارا . أكرر كل الداعين إلى جنيف يريدون لهذه الثورة احتواء وليس انتصارا ..
وإلا فليخبرني هؤلاء الأخوة الذين يستحضرون تجارب التاريخ تأوها وإشفاقا متى تجمع لثورة أو شعب في تاريخ المنطقة أكثر من مائة ألف مقاتل تحت السلاح تجمعهم العقيدة والفكرة والإرادة وكل الذي يحتاجون إليه الإدارة الحكيمة البرة التي توحد وتخطط وتنسق ، تلم الشعث وتجمع الشمل وتخوض الغمرة وتكشف الغمة وتنصر الحق ..
ودور هذه الإدارة هو المطلوب وهو البديل عن القسمة الضيزى عن الفرجة على الممارسة السياسية تجري في جنيف أو في غير جنيف