يدرك كلُّ من يتابع المشهد السوري ، ولو عن عرض ، أن ما يجري في جنيف إنما يُبنى على حرف أو على جرف . فهؤلاء الحاضرون إلى جنيف المستجيبون للدعوة الأممية أو الأمريكية – الروسية ، لم يحضروا إلا بعد أن قطعوا الكثير من حبالهم ، وكسروا الكثير من عصيهم . فعلى خلفية استجابتهم لم يعد الائتلاف ائتلافا ، ولا المجلس الوطني جامعا ، ولم تقرّ لهم بتفويض أي جماعة سياسية معتبرة ، أو أي فيلق ثوري ذي شأن ..
إن ثلاث سنوات من الختل والمطل وعدم الوفاء بالوعود والعهود ممن سُموا أصدقاء الشعب السوري أورثت السواد العام من أبناء هذا الشعب الكثير من الريبة والشك في كل ما يطرحه أو يعد به أولئك الأصدقاء . بل إن حالة اليأس المنتشرة بين الكثير من مكونات المجتمع السوري كانت العامل الأول في القرارات السلبية التي وُجهت بها الدعوة إلى مؤتمر جنيف وفي الانسحابات متعددة الوجوه والبواعث التي عصفت ببنية الائتلاف الوطني ..
ومن الضروري أن نوضح أنه ليس هناك أي فريق سوري ( لا إسلامي ولا علماني ) يرفض الحل السياسي في سورية . ليس هناك أي فريق يرفض أن يصل إلى مطالب الثورة في إعادة رفع المظلة الوطنية الجامعة على قاعدة السواء الوطني بلا إقصاء ولا تمييز بلا قتل ولا دماء. إن الموقف الرافض لدعوة جنيف الذي صدر عن مؤسسة وطنية عتيدة مثل ( المجلس الوطني ) ، وعن جماعة إسلامية مخضرمة سياسيا مثل جماعة الإخوان المسلمين ومن الكثير من القوى الثورية على الأرض ؛ لم يكن موقفا من الحل السياسي كما يحاول البعض أن يطرحه وإنما هو موقف من الدعوة ومن الداعين ومن الظرف الذي سبق الدعوة أو صاحبها ..
إن على المتابع أو الدارس أن يلحظ أن الموقف من الدعوة ومن المؤتمر لم يتم حسمه على خلفية إيديولوجية كما هي عادة السوريين . وبغض النظر عن الذين رفضوا الدعوة لأسباب شخصانية يصعب تفهمها في هذا الظرف الوطني ، فإن الرافضين للدعوة وللمؤتمر كانوا من كل الطيف الوطني من علمانيين وإسلاميين . وأن هؤلاء يجتمعون على الرفض للأسباب نفسها : اليأس من الأصدقاء ، وضعف الثقة بهم ، وبوعودهم وبطروحاتهم وهذا أمر له ما بعده ..
وبالمقابل فإن الفريق المغامر بإجابة الدعوة – ووصف المغامر ليس للانتقاص ولا للاتهام – مكون هو الآخر من كل الطيف الوطني . وهذا الفريق الأكثر براغماتية في صفوف المعارضين السوريين فَقَدَ باستجابته للدعوة الكثير من مرتكزات قوته ، بل ومن مصداقيته أمام مزاج شعبي تلهبه ، وليس توهنه ، البراميل المتفجرة ، وتتغشاه حكايات أحد عشر ألف إنسان توثق أكثر من خمسين ألف صورة طرائق إبادتهم ..
إن المزاج الشعبي الملتهب في سورية لا يستطيع أن يساوق تفكير السيد الأخضر الإبراهيمي الذي كان يطرح بالأمس ( خطوات لبناء الثقة ) !!! بناء الثقة بين من ومن ؟! وفي ظل أي ظرف ؟! وإن المزاج الشعبي السوري لا يستطيع أن يذهب مع السيد كيري إلى مفاوضات بعيدة المدى على نحو ما جرى في البوسنة أو في فيتنام كما كان يذكر في مؤتمره الصحفي ..
كما أن عملية إدارة المفاوضات لا تختزل في خطاب افتتاحي يقول البعض كان جيدا ، وليس في موضوعة نصافح أو لا نصافح وأين نجلس وكيف نجلس . إدارة المفاوضات في ظل وضع ثوري ، كل ما فيه ملتهب ، يجب أن تستمد روحا من هذه الثورة ..
كل العقلاء الذين قالوا : ” لا ” لجنيف ، يدعون اليوم بالتوفيق لهؤلاء الذين غامروا فاستجابوا للدعوة وحضروا إلى جنيف ، ولكن على هؤلاء أيضا أن يدركوا قبل كل شيء هشاشة مرجعيتهم وتربص المتربصين قبل أمل الآملين بهم ..
سبق لوليد المعلم أن قال إن على الذين يعملون معنا أن يتعلموا السباحة جيدا . ربما من الضروري أن لا ينغمس هؤلاء أصلا في مستنقع وليد المعلم ، وألا يغرقوا في التفاصيل التي سيقترحها عليهم الأخضر الإبراهيمي . كل التفاصيل على أهميتها ستعالجها هيئة الحكم الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة وليس الموسعة والتي لن يكون فيها من الذين تلطخت أيديهم بدماء الشعب السوري أحد . فإن استطاع هؤلاء المغامرون تحقيق هذا ؛ وإلا فيكفيهم ما تورطوا حتى الآن فيه خوفا عليهم من التورط في المزيد ..
وفي الوقت نفسه يتوجه الخطاب للداعين إلى المؤتمر والمختبئين وراءه احذروا أن تطلقوا النار على هذا الفريق فإنكم إن فعلتم لن تجدوا بين ظهراني القوى السورية الحقيقية بعد اليوم من تكلمون …