أطلق المحللون السياسيون على المرحلة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي ، وانتهاء الحرب الباردة اسم ( الحقبة الأمريكية ) . وجرت في ظل غياب التوازن الدولي بين تسعينات القرن العشرين إلى العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين أحداث جسام وحروب مدمرة كانت ميادينها الكبرى في بلاد العرب والمسلمين .
مع بوش الأب ذهبت الأمة ، بما فيها سورية دولة المقاومة والممانعة ، إلى مدريد وتخلت عن آخر ورقة توت تستر عورتها في فلسطين ، ودخلت في مفاوضات عبثية كالتي تجري اليوم في جنيف ، وما زالت الأمة تدفع نتائجها ذلا وخذلانا إلى اليوم .ثم كان الغزو الأول للعراق وتلاه غزو أفغانستان ثم الغزو الثاني للعراق الذي أثمر نتائج كارثية على أكثر من صعيد …
مع وصول الرئيس أوباما إلى السلطة سنة 2008 ، والذي دُشن عهده بجائزة نوبل للسلام ، فهم منها الرئيس الضعيف أو القادم من بيئة مستضعفة تاريخيا ، أن عليه أن يتوارى بدوره وبمملكته وراء المحيطات . وهكذا خرجت الولايات المتحدة – طوعيا – من دائرة الفعل العالمي . وتركت للروس الذين وجدوا في هذا الانكفاء فرصة تاريخية لإعادة إثبات وجودهم ، واستعادة دورهم كقوة دولية تحمي حلفاءها وتحافظ على مناطق ودوائر ونفوذها . وهكذا بدأ العالم يتابع ملامح الحقبة الروسية وأبعادها من خلال كل ما جرى ويجري على الأرض السورية كمحطة اختبار أولية.
وحين نتحدث عن حقبة روسية تسود العالم اليوم في ظل تواري الدور الأمريكي فإن علينا ألا ننسى الفرق بينها وبين الحقبة الأمريكية حيث كان الأمريكيون يتصرفون وهم واثقون أن لا أحد بمقدوره في هذا العالم حتى لو أراد أن يقول لهم : لا . بينما الأمر بالنسبة للروس ليس كذلك مما يجعلهم حقيقة غير قادرين على الذهاب فيما يرتكبون إلى أقصى ما يحلمون ويشتهون …
ولعل أبرز ما يذكر من ملامح الحقبة الروسية أن النظام الروسي ، رغم القشرة الديمقراطية التي طلا وجهه ومؤسساته بها ، لا يزال سليل نظام شمولي استبدادي ونظام مافيوي يعشش فيه الفساد وتتلاعب به قوة مؤسسة ( المخابرات ) التي كان بوتين نفسه أحد عملائها السوفييت الصغار ..
فروسية ما تزال دولة مخابرات بوليسية تموه كل قباحات الاستبداد والفساد بالاحتيال على إرادة الإنسان الروسي . وما لعبة تبادل الأدوار بين بوتين وميدفيدف بشأن التعددية الرئاسية الصورية عنا ببعيد .
وانبثق عن هذا التصنيف الجوهري للنظام الروسي ، وعلى قاعدة إن الطيور على أشكالها تقع ، أن تندفع الحكومة الروسية تلقائيا لدعم كل ما تبقى من أنظمة شمولية حول العالم ، وتجد في استبدادهم قوة وفي ظلمهم عدلا وفي مخاريقهم صورا لشرعية زائفة ، وفي الدفاع عنهم ما يدعونه دفاعا عن الشرعية والقانون الدوليين . وهكذا رأى الروس منذ الأيام الأولى للثورة السورية ثورة عليهم ، ثورة على شكل دولتهم ، وعلى أساليب إدارتهم وطرائق احتيالهم وعلى موارد فسادهم ومناطق نفوذهم . وهو الدور نفسه الذي يلعبه الروس اليوم في أوكرانيا ضد ثورة الشعب الأوكراني . حيث نستمع إلى سياسييهم يرددون العبارات والمعاذير التي يتحدثون بها عن ثورة الشعب السوري نفسها .
يعجب السوريون وهم يتابعون مداورات بوتين ولافروف في توصيف ثورتهم أو في الحديث عن حقوقهم أو عن مظلوميتهم ولكنهم يغفلون أن الروس بدفاعهم عن بشار الأسد وسياساته وأساليبه إنما يدافعون عن أنفسهم وعن نظامهم وعن مشروعهم ( الشمولي ) الذي ضعف ولكنه لم يسقط كما قرأ غرورا صاحب كتاب ( نهاية التاريخ ) .
ومن الملمح الشمولي للحقبة الروسية نجد أنفسنا محاصرين اليوم بالملمح الأخطر الملمح الستاليني ..
ولقد تجلى هذا الملمح في التاريخ السوفييتي بحجم القسوة التي تمتع بها ستالين : الرجل الذي كان يوقع أمرا بإعدام آلاف البشر ثم يقوم عن مقعده لمتابعة فيلم سينمائي في سهرة روتينية . لقد أصبحت القسوة النازية مضرب المثل لأن هتلر قد انهزم وكتب تاريخه ورسم سيرته المنتصرون ولكن الذي نسيه الكثيرون أن قسوة ستالين قد انتصرت على قسوة هتلر .في أوسط تقديرات المؤرخين يتحمل ( ستالين ) مسئولية إبادة خمسين مليون إنسان . هناك من يصل بالرقم إلى سبعين مليون في إحصاءات شبه موثقة ..
رسخت الفلسفة المادية الماركسية في نفوس معتنقيها أن : الحياة المادة ، وهذا ما أهدر قيمة الإنسان ، وسهل على القاتل عملية القتل . فالإنسان ما هو إلا صورة من صور المادة كما رآها ماركس ثم لينين وستالين ثم بقية الفريق من تلامذة المدرسة المادية ..
هذا القتل المستحر اليوم في سورية في الرجال والنساء والأطفال والذي يستقبل بهذا الحجم من اللامبالاة الروسية !! وجه لافروف البارد وهو يتحدث عن حق بشار الأسد في إبادة الشعب السوري ، وفي الدفاع عما يسميه لافروف شرعية دستورية أو قانون دولي . لا نتحدث هنا عن مضمون الخطاب الذرائعي وسداده أو تهافته . نتحدث عن برودة الوجه وغياب أي ملمح إنساني عنه وصاحبه يتحدث أو أصحابه من المتحدثين الروس رجالا ونساء يتحدثون عن أبشع جرائم الإبادة ترتكب في حق الإنسان السوري أظنهم بالطريقة نفسها سيتحدثون عن إبادة الإنساني الروسي أو الأوكراني .
إننا اليوم ونحن نعيش ( الحقبة الروسية ) ببعض أبعادها ونتابع تسويغ السياسي الروسي لجريمة قتل الإنسان بالكيماوي بالطريقة التي استمعنا إليها من موسكو ، أو إبادة الإنسان بالتجويع كما نستمع اليوم إلى لافروف وتشوركين في مجلس الأمن ، يجب ألا ننسى أن الجريمة الروسية في الحقبة الروسية ترتكب اليوم بحق شعبنا في ظل قدرة لا محدودة لقوى ما يسمى زورا ( العالم الحر ) على وقف الجريمة والأخذ على يد المجرمين .