الصحوة الإسلامية
تميز الربع الأخير من القرن العشرين بتقدم ما اصطلح على تسميته ( الصحوة الإسلامية ) . وقد تمثلت هذه الصحوة بتحول لافت في بوصلة الجماهير والنخب
العربية نحو الإسلام : العقيدة والشريعة ومنهج الحياة . وكان لهذا التحول أبعاده : السلوكية والثقافية والاجتماعية والسياسية . فظهرت هذه الصحوة في مناحي شتى من عالم السلوك والالتزام والخطاب والاختيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي . وشمل هذا التحول طبقات من الهرم الاجتماعي العربي والإسلامي فتغشّى كل مدرجات المجتمعات ، غير مقتصر على مفهوم الطبقة الماركسية القائم على البعد الاقتصادي وحده ..
جمهور الصحوة الإسلامية
فكان من عديد جماهير هذه الصحوة على امتداد الساحة العربية كثير ممن يطلق عليه الطبقة المجتمعية المخملية من أصحاب الثروات ورؤوس الأموال ، كما كان من عديدها جماهير من أبناء الطبقة الوسطى بمختلف مفاهيمها ، و كذا من طبقات العمال والفلاحين والمهمشين ، على خلفيات التهميش المختلفة : الاقتصادي أو السياسي وأحيانا الديني أو المذهبي أو العرقي ، كما كان من عديد جماهير هذه الصحوة نخب علمية وأساتذة جامعات وعائدون من الغرب بشهادات أكاديمية متميزة وخريجون ودارسون وطلاب ومثقفون وتجار ومهنيون وأوساط متعلمين وشبه أميين.
وكان من عديد جماهير هذه الصحوة متفقون مختلفون منهم من يرى في الإسلام بعده الأخلاقي والتربوي ، ومنهم من يراه في بعده الاجتماعي ، ومنهم من يراه في أبعاده الفكرية والثقافية ومنهم من يراه في أبعاده السياسية أو الاقتصادية ومنهم من يراه منهجا شاملا يشمل فيما يعتقدون ( العقيدة والعبادة والشريعة ومنهج الحياة ) . وكان واضحا أن عديد جماهير هذه الصحوة قد شكلت تيارا كبيرا متشعبا غير منظم توجهه ، دون أن تحكم السيطرة عليه عمليا قيادات دينية علمية محلية ، وتنظيمات سياسية ، ومدارس ورموز تاريخية ، وأن هذا التيار الضخم المتشعب يتوزع على مدارس ومناهج في التفكير وفي الموقف منها ما يجنح بما يطلق عليه في الإسلام مناهج ( الغلو والتشدد ) على خلفيات مختلفة ، ومنها ما ينحو إلى التساهل والانضباط العاطفي بما تيسر ، ومنها ما يتجه إلى التمسك بظاهر النص مما سمي تاريخيا من أهل السلف ، ومنها ما يرغب في الروحيات الإشراقية مما عرف بالمدرسة الصوفية ، ومنها ما ينحو إلى الوسطية والاعتدال والجمع بين المناهج والطرائق على تفاوت كبير بين أبناء هذا التيار في فهم الوسطية والاعتدال ومدلولات تفسيرها والالتزام بها أيضا ..
خلفيات التحول إلى الصحوة الإسلامية ودوافعها ..
يحار الكثير من المفسرين للظواهر الاجتماعية والفكرية في تفسير العوامل الحقيقية التي ساهمت في بروز الصحوة الإسلامية . في عصر يؤرخ فيه المؤرخون الاجتماعيون لغروب الفكر الديني عالميا وتقدم الفكر المادي في حمى قوانين الانتاج والاستهلاك والرغبة والإشباع . يتساءلون: وكيف يمكن أن تكون مخرجات التجارب التعليمية والإعلامية والثقافية في العالم العربي والإسلامي مناقضة لمدخلاتها التي يظن المشرفون عليها من مستعمرين ووكلاء أنهم أحكموا أمرها جيدا بحيث تدفع المجتمعات العربية والمسلمة في اتجاه تيار معولم يتدفق في بحر المادية وما يسمى الحداثة بكل أبعادها ..؟!
ثم يتبارى القوم في اقتناص هذه الأسباب بما يسمونه : الفشل العام للدول القطرية ، وما تعيشه المجتمعات العربية من تخلف وفقر وبطالة وهزائم سياسية واستبداد وتهميش ..
لن نكون مضطرين إلى مناقشة تفاصيل الكثير من هذه الادعاءات ولكن يبقى من حقنا أن نؤكد أن هذا التقديرات هي كلام أشخاص يجهلون عمليا حقيقة ( ما يعد به الإسلام ) وهذا العنوان مقتبس من المفكر الفرنسي الكبير ( روجية غارودي ) وهو عنوان كتاب له .
إن من بعض معالم إعجاز القرآن الكريم قدراته الذاتية المبهرة في مخاطبة قدرات متفاوتة على مدارج الوعي الإنساني . وقدرته الفائقة على الوصول إلى شغافها وتلبية تطلعاتها وأشواقها على كل صعيد . العالم المحقق ، والمفكر المجلّي ، والأستاذ الجامعي ، وطالب العلم ونصف المتعلم ونصف المثقف والأمي كلهم في الانبهار بهذا القرآن سواء وكلهم يجدون في هذا الدين الحسنَ والجميلَ الذي يعدهم به ..
ولن ننسى ونحن نسرد العوامل التي شاركت في إبراز هذه الصحوة الإسلامية ما تعرض له دعاة الإسلام على مدى قرن مضى من ظلم واضطهاد واستئصال وإقصاء ومحاولة تجفيف الينابيع من روسية القيصرية إلى روسية الستالينية إلى يوغسلافيا إلى تركية الكمالية إلى دول الشمال العربي الأفريقي الفرنسية والإيطالية إلى مصر الاستبدادية الناصرية والمباركية إلى العراق وسورية البعثيتين ,,,
حرب لم تتوقف على مدى قرن من الزمان تحت عناوين ومسميات شتى شنتها قوى وأحزاب وشخصيات عرفت عند الشعوب باستبدادها وفسادها وانحلالها وفشلها وهزائمها الكبرى فكانت حربها ومذمتها مذمة الناقص الذي يشهد لنقيضه بالكمال ..