حين نتحدث عن استراتيجية عملية لأنسنة مشروع الثورة وبالأصل المشروع الوطني لسورية المستقبل فإن الحديث لا يدور عن بعد ( معرفي ) فقط مع أن المعرفة الحقة هي مقدمة أساسية في هذه الاستراتيجية .
وحين يرقب المرء الساحة الإسلامية في العالم العربي عامة وفي سورية في الفضاء الثوري خاصة ويتابع حجم ( الغرائب ) التي تتداولها مجموعات وفئات وسبق لهم أن قالوا ( شر العلم الغرائب ) يتساءل أين كان الخلل في مدخلات كل هذا ؟! ومن المسئول عنه ؟! وكيف يتم تقويمه أو استداركه ؟!
والمشكلة أن طرح هذه التساؤلات لا تثير الحاملين للخلل والمتلبسين به فقط ، وإنما تثير أيضا فريقا من الناس يبادر ليقطع الطريق عليك بالقول : ليس الآن ، أو ليس بهذه الطريقة ، أو ليس بهذا الوضوح والمباشرة ..
وعائق آخر يقوم حجة عليك أن يبادر من لا ثوب له إلى توظيف ما تتحدث عنه من بقع ورقع في ثوبك كعملية تنظيف ورفو ، إلى اعتبار ما تسجله كاعتراف يستعمل كمادة إدانة أو تشهير . ولكن كل أولئك لا يجوز أن يمنعنا من الإقرار أن واقع الدعوة الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي ليس بخير .
وأن الاستدارك للتصحيح والتوضيح أصبح واجب الوقت . وأن الظلم والبغي والفساد والاستبداد الذي يقاومه شعبنا بكل هذه التضحيات الجسام إذا مورس باسم الإسلام منهجه وشريعته وأهله سيكون أبشع وأشنع ..
وحين يشرح المدرس موضوعا ثم يجد عددا كبيرا من طلاب فصله لم يستطيعوا أن يدركوا مراده الحقيقي فعليه أن يتهم خطابه أو طريقته .
بناء الاستراتيجية الدعوية في فضاء العدمية السياسية لمجتمعاتنا على إدانة ما يفعله الطغاة والمستبدون والفاسدون قد أدى دورا ولكنه لم يضع في تصوره تقديم بديل عملي واقعي. والتعامل مع التاريخ كأنموذج موح ومؤثر ولكنه لا يجوز أن يكون دعوة للعودة إلى كهوف الأزمنة الغابرة .والشريعة الإسلامية والنصوص الربانية لا تنص على ذلك ، ولا تدعو إليه بل ولا ترضاه ..
أسلفنا أن استراتيجية أنسنة مشروع ثورتنا ومشروعنا الوطني ليس استراتيجية معرفية ولكن لا بد فيه من المقدمات المعرفية التي تكون بمثابة العتبات التي تنقلنا إلى مستويات جديدة من الوعي والإدراك ومن السلوك ومن الالتزام الجمعي بقيمنا الإسلامية المطلقة في أطرها الإنسانية والعصرية ..
إن البعد الأول لهذه الاستراتيجية التي يناط بدعاة الإسلام بشكل خاص التركيز عليها 🙁 البعد العقلي) الذي يركز على تربية العقل الناقد أكثر من الفرد المريد . المريد الذي لا يقول : لمَ ، أو الذي يطفئ سراج العقل( والاقتباس هنا من الأدبيات الإسلامية والمسيحية ) ويتابع على غير هدى . والعقل الناقد ليس الذي يردد ويحفظ أو يُحفّظ أو يُسلّم ويستسلم بل العقل الذي يدرك ويستوعب ويميز ويسأل : لماذا وكيف ومن أين وإلى أين ..
العجيب الذي يمكن أن يثار هنا أن بعض الدول العربية التي استسلمت لإرادة شعوبها في إصرارهم على تحفيظ أبنائهم للقرآن الكريم منعت من المعلمين المحفظين من شرح أو تفسير ما تحفظ هذه الأجيال !!!
وللأنسنة بعدها الفكري والثقافي …
هي الاستراتيجية التي تخرج الضفدع من البئر الصغير الذي فقست بيضته فيه ، لتدرك شعوبنا معنى ( رب العالمين ) على الحقيقة ، ولتستوعب تجليات ( وسع كرسيه السموات والأرض ) وتفسر المعطى القرآني الأزلي الخالد على ضوء ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) .
المطلوب أن يُطل الفرد المسلم من القوقعة الصغيرة المخيفة وإن ظنها البعض آمنة ، على العصر والإنسان والفكر والمعرفة والثقافة في كل مجاليها من الأبعاد المهمة في بناء الاستراتيجية الأنسنية إدراك البعد الاجتماعي في المبادئ العامة لعلم الاجتماع ، الذي يعود لهذه الأمة شرف تأسيسه . العلم الذي يعلمنا أن أبناءنا لن يعيشوا في ثيابنا كما أننا لم نعش في ثياب آبائنا. علم سيرورة الحياة الاجتماعية وصيرورتها في الزمان والمكان أيضا .العلم الذي رمز له عمر رضي الله عنه في موقفين : في قوله : ربوا أولادكم على غير عاداتكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم . وفي إقراره لمعاوية بالفرق بين مجتمع دمشق ومجتمع المدينة المنورة في نفس العصر الذي كانا يعيشان فيه . نتحدث كثيرا عن فقه الشافعي في العراق وفي مصر ( القديم والجديد ) وننسى أو نغفل أن جانبا من الاختلاف هذا هو جزء من الفقه الاجتماعي لهذا الإمام العظيم .
حين نتابع بعض حاملي ( الكرابيج ) اليوم يخطرون بين ظهراني الشعب السوري باسم الإسلام نتساءل أي ويل وأي ثبور يترصد بهذه الثورة وبهذا المجتمع . وهل خطر مثل هؤلاء بين ظهراني الناس في عهد رسول الله أو في عهد الأوفياء الراشدين من بعده ؟!
إن أنسنة البعد الاجتماعي في عقول جيل الثورة أمر أخطر من أنسنة البعد السياسي وأسبق من إعادة بناء المجتمعين الأهلي والمدني من مستشرف علمي إنساني على أهمية كل ذلك …
ثم أنسنة التصور للدولة المشروع التي نسعى إليها الدولة التي تحمي وليس التي تقتل ، الدولة التي تعلم وليس الدولة التي تسيطر ، الدولة التي تصون وتحمي وترعى بالعدل والقسط والسواء الذي كفلته صحيفة المدينة لكل من كان على أرض المدينة .لا أدري لماذا يصرون على أن يسقطوا من كتاب الله قوله تعالى (( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر ))
وأخيرا وإذا كان تسليح الثوار وعسكرة الثورة ثمرة اضطرار للشر الذي كتبه علينا المجرمون والمتواطئون والمتخاذلون فيجب ألا نغفل لحظة عن أنسنة العلاقة بهذا السلاح . السلاح الذي أردناه لحماية الحياة وليس لاستباحتها …
أنسنة الثورة : إنسانها وفكرها وأهدافها ووسائلها ويومها وغدها استراتيجية متكاملة أول من يدعى إلى الجهر به وتبنيه والدعوة إليه والذود عنه وشرح أبعاده دعاة الإسلام وحملة رايته والناطقون باسمه من رجال الفكر والدعوة لأن كل العمليات الارتدادية إنما تحدث اليوم باسم الإسلام شريعته ومشروعه ومن جنود تخرجوا من مدرسته ..
استراتيجية متكاملة لها قواعدها النظرية ووسائلها وآلياتها العملية وآفاقها المتصورة للغد الجامع على الخير ..
وهذه ضربة معول أول ..