تتوالى الأنباء عن طرق الموت المختلفة التي يتعرض لها الشعب السوري، ولعل آخرها بسبب النباتات السامة التي لجأ إليها المحاصَرون في حمص بعد أن نفد ما لديهم من مؤن ولم يعد مجديا البحث عن الطعام بين الأنقاض وتحت الركام، في حين تستمر الطائرات بإسقاط البراميل المتفجرة لتنشر الموت في كل مكان.
رحت أراجع الأحداث وأتساءل لماذا يحصل هذا؟ فتذكرت قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح والتي وردت في سورة الكهف. فقرأتها متأملاً ما فيها لعلي أجد تفسيراً لما يحدث.
فذاك العبد الصالح قد أطلعه الله على جانب من العلم الغيبي بقدر محدود، ولحكمة أرادها. ولذا فإنه نبّه نبيَ الله موسى أنه لا طاقة له بالصبر على تصرفاته، التي حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي، وبالأحكام الظاهرة، ولا بد من إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة، مما اضطر موسى أن (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) فاشترط عليه العبد الصالح (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).
قام العبد الصالح بثلاثة أعمال: خرق السفينة، وقتل غلاماً، وأصلح جداراً يريد أن ينقضّ في قرية أبى أهلها تقديم واجب الضيافة. وفي كل مرة ينكر موسى عليه السلام عمله، إلى أن كانت النتيجة (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)، ثم أوضح له الحكمة من كل عمل، ثم قال (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).
ونرى في موضوع قتل الغلام جانبين: الجانب الغيبي الذي لا نعرفه وهو الذي تنطوي عليه حكمة المولى سبحانه وتعالى، والجانب المشهود الذي تقوم عليه حياتنا ولابد فيه من تنفيذ الأحكام والشرائع التي تحكم تصرفات البشر.
إن الحكمة الإلهية لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة. وقد شاء الله سبحانه أن يطلع نبيّه موسى عليه السلام على جانب منها فأرسل له العبد الصالح ليقوم بهذه الأعمال كي يعلمه ويشرح له الحكمة من ورائها. فالغلام الذي لا يبدو في حاضره ومظهره أنه يستحق القتل، يتبين لنا أنه لو عاش لأرهق والديه المؤمنين بكفره وطغيانه، فأراد الله قتله ليبدلهما خيرا منه، وأرحم بهما.
أما في العلم البشري الظاهر، فإن الغلام لم يرتكب ما يستحق عليه القتل شرعا. ولذا فقد اندفع موسى عليه السلام (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً!). إنها جريمة قتل نفس عمداً لا مجال للتأول فيها، وكبيرة لا مجال للسكوت عنها، فانطلق موسى ينكر المنكر الذي لا يصبر على وقوعه ولا يتأول له أسبابا، فالغلام بريء لم يرتكب ما يوجب القتل! ولو لم يكن موسى في خضم أحداث تلك القصة الخاصة لأقام الحدّ على القاتل، فالشريعة لا تأخذ إلا بالعمل الظاهر، ولا تستطيع أن تحكم على الغيب.
وما يجري في سوريا ينطبق عليه الجانبان. ففي الجانب الغيبي لا نعلم حكمة الله فيما يجري، لأنه سبحانه لا يطلع على الغيب إلا من ارتضى، ونحن نترك الغيب له، يدبر الأمر بحكمته، وفق علمه الشامل الذي نقصر عنه، ولا ينكشف لنا عما وراءه من الأسرار إلا بمقدار، في حين تبقى معظم الأمور مغيبة في علم الله وراء الأستار. أما في الجانب المشهود فإنها جرائم، وأيما جرائم، والناس مأمورون بالأخذ على يد القاتل الظالم.
وإنه لمن المحزن أن أنصار الشعب السوري قليل، وإذا استثنينا هؤلاء الأنصار، فالباقون ينطبق عليهم قول الشاعر :
الكلُّ مشتركٌ بقتلِكَ، إنّما *** نابَتْ يَدُ الجاني عن الشُّركاءِِ