عنوان مستغرب، بل متناقض. كيف تكون آثاماً، ثم تكون في سبيل الله؟! ولكنْ ألم تدخل الغرائب والمتناقضات في حياة المسلمين عامة، بل في حياة بعض الدعاة؟!.
هناك آثام لا تكاد تلتبس على أحد، وما يرتكبها إنسان إلا وهو يعلم أنه آثم عاصٍ منحرف. كشرب الخمر وترك الصلاة، فليست هي الآثام المقصودة في حديثنا هذا. إنما المقصود آثام يُلبّس الشيطان على أصحابها، فيرتكبونها من غير أن يحسوا بالتأثّم. وقد يُلبّس عليهم أكثر فيحسّون أنهم يتقرّبون بها إلى الله تعالى، فيشبهون بذلك (الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً).
ألم يؤلّف الإمام عبد الرحمن بن الجوزي كتاباً سمّاه “تلبيس إبليس”، ليكشف مداخل الشيطان على نفوس الوعّاظ والعبّاد والخطباء والعلماء..؟. فالذي نريده بحديثنا، هذا النوع من التلبيس.
ولا نزعم أن هذه الآثام قد عمّت صفوف الدعاة، أو شاعت فيهم شيوعاً كبيراً، فإن معالجة الإثم لا يُنتظر فيها شيوعه وعمومه… كالثوب يحرص صاحبه على نظافته، وما أن يجدَ فيه أثراً من دنس حتى يسارع فيزيله.
وليس ما نضربه من أمثلة على هذه الآثام يلتبس كله على الدعاة، بل يكفي أن يلتبس بعضه على بعض الدعاة!.
وهذه الآثام تتفاوت ثقلاً في ميزان الله. ففيها ما يصل إلى درجة الكبائر، كالذي يزينه الشيطان في نفوس بعض المسلمين فيخاصمون من يخالفهم في الاجتهادات، وقد تصل هذه الخصومة إلى التكفير واستباحة الدماء… ومنها ما دون ذلك. ولا يخفى علينا أن مما يزيد من خطورة الإثم أن تكون التبعات المترتبة عليه كبيرة، أو يكون صادراً عمّن هو في موقع القدوة… والله سبحانه يُحصي علينا أعمالنا التي قدّمناها، كما يحصي الآثار التي خلّفتها.
(إنا نحنُ نحيي الموتى، ونكتب ما قدّموا وآثارهم. وكل شيء أحصيناه في إمام مبين). {سورة يس: 12}.
فهل آن الأوان لنشخّص بعض الأدواء، ونذكر بعض هذه الآثام؟.
لعلّ في رأس هذه الآثام الغيبة.
وهل تخفى الغيبة على مسلم عادي، فضلاً عمّن هو في مقام الداعية؟!.
إنّ الشيطان يزيّن للداعية أن يخوض في أعراض إخوانه الذين خالفوه في “أمر الدعوة”، فيتحدث عن جهل فلان، وتقصيره في العبادات، وقلة بضاعته في الخبرات التي يحتاجها العمل، وركون قلبه إلى أعداء الله… وربما تحدث عن كثرة أكله وسوء معاملته أهله… وربما لم يكتفِ بما هو فيه بل يَبْهَتُهُ كذلك. ويدافع عن نفسه أمام نفسه، أو أمام من يُنبّهه إلى أنّ ما وقع فيه هو الغيبة… فيتلمّس الأبواب التي يجوز فيها للمسلم أن يذكر أخاه بما يكره، ويحشر فيها هذا الذي نطق به، ويتعسّف في تطويع النصوص الشرعية… وقد يستطيع بذلك إقناع غيره، وقد يوهم نفسه أنه مقتنع بما يقول… ولو صارح نفسه لاعترف أنه ما قال ما قال إلا انتصاراً للذات، أو تغليباً لمصلحة ضيقة. ولقد أطلنا في تحليل هذا المثال، فلنختصر في سرد الأمثلة الأخرى.
– عندما يكون الأخ مسؤولاً عن إنجاز عمل، أو إدارة عمل، ولا يُتمّ عمله كما ينبغي، لعجزه أو تقصيره أو لوجود عوائق خارجية، أو لقلة الإمكانات المتاحة له… ثم يعطي صورة عن عمله فيها غلوّ في جانب الإنجاز، وإغماض عن جوانب الإخفاق… يكون قد وقع في الغشّ. وهو يسوّغ فعلته بأنه لا يريد إشاعة اليأس في القلوب. وكم مرة رُسمت صور عن العمل أجمل من الواقع.. ثم انكشف الواقع فكان الإحباط عميقاً؟!..
– وعندما يكيد أخ لأخيه، ويتآمر عليه، ويعمل على “تفشيله” وعلى فضح عوراته، وعلى التقليل من شأن نجاحاته… لأن من “مصلحة الدعوة” أن “يُحرَق” هذا الأخ ويزاح عن الطريق… يكون هذا من تلبيس إبليس.
– وعندما يحرص بعضهم على تمييز بين إخوانه وزملائه، لا يقوم على أسس من الشرع والعقل، فينتقي من شاء ويبرزه ويقدّمه، ويهمل من هو مثله، وربما كان أفضل منه، ويتحامل على آخر ويشهّر بضعفه وعيبه، ويحابي ثالثاً ويتستّر على أخطائه… يكون هذا من الآثام. وعندما يرتكب كل هذا ويحسب أنه يفعل ما يفعل لمصلحة هذا الدين.. فإنه يرتكبها ويحسبها في سبيل الله!!.
– وعندما يقدم المسوّغات الهشة، التي يتهرّب بها من القيام بتكليفات شرعية تحتاجها الجماعة والمجتمع، أو يُعين على تهرّب بعض المقرّبين… ويوهم نفسه أن قناعته التي يُحَكّمُها في تحقيق مصلحة الجماعة العليا هي الأَولى والأعلى… يكون مشمولاً بما نتحدث عنه.
– ويدخل في ذلك النجوى بالإثم والعدوان، وتطويع الأنظمة لخدمة مصالح فردية أو فئوية أو إقليمية، وجعل المؤسسة سلّماً لتحقيق المكاسب الخاصة من مال أو مجد أو ظهور، وتغليب النظرة الحزبية في تقويم الأفراد، فكل من سار “معنا” هو جيد طيب مخلص صاحب عطاء… وكل من خالفنا هو منحرف دخيل ساقط الاعتبار.
– وأسوأ من ذلك كله باطن الإثم، من كبر وعُجب وغرور، وحقد وغلّ وحسد، وقسوة قلب… وقد نهانا ربنا سبحانه عن الإثم كله فقال: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه). فتركْنا ظاهر الإثم، أو كثيراً منه، ووجد الشيطان مدخلاً أوسع ليُلبّس علينا في باطن الإثم، فوقع بعضنا في حبائله وهو يحسب أنه على خير عظيم، وطاعة لله وإخبات.
ولعل ما ضربناه من أمثلة كاف في توضيح ما أردنا، ويمكن أن تُقاس عليه أمور أخرى كثيرة.
وإن من الإثم الذي يدخل في هذه الأبواب أن يسيء أحدنا الظن بأخيه، فكلما مرّ به ذكر واحد من الآثام قال: إن هذا فعلاً ينطبق على فلان، وذاك ينطبق على فلان… أما هو فبريء من كل ذلك. وهو صاحب اختصاص في توزيع التهم، وإدانة الآخرين.
وللشيطان مداخل كثيرة في ترويج خداعه. يقول للداعية: إنك على حق فيما تفعل، وإنك تطلب وجه الله وحده في كل ما تبغي. ولو لم تكن كذلك إذن لبحثت لنفسك عن أبواب تُحصّلُ بها المال والجاه والمنصب… عند أصحاب السلطان من أهل الدنيا، وهم لا يمنعونك شيئاً من ذلك، ولعلهم يتمنّون أن تتقرب إليهم فيقدّموا لك ما تريد… فإذا لم تفعل، وآثرت العمل في الصف الإسلامي على ما فيه من ابتلاء… فأنت مخلص ولا شك.
وكشف ألاعيب الشيطان هذه يحتاج إلى فطنة ودِرْبَة. وخلاصتها أن الداعية قد يقع فريسة الحيل النفسية التي يوفّق بها بين الإسلام ومتطلباته من ناحية، وبين شهواته من ناحية أخرى.
وإن ارتكاب الإثم الصريح المكشوف قد يكون أقلّ خطورة من الآثام التي يُلبّس بها الشيطان، ففي الإثم الصريح يحسّ الإنسان بذنبه، ويرجى له أن يستغفر ويتوب، وفي الإثم “الملبس” لا يتطرق لإحساسٍ بالذنب وندم عليه، فينغمس فيه إلى حين أن ينكشف له الأمر.
القضية من أولها إلى آخرها تحتاج إلى رقابة لله تعالى، وصدق مع النفس، واشتغال بعيوب الذات لا بعيوب الآخرين، شأنَ العُبّاد الصادقين، ودقةٍ في تفتيش القلب لكشف الدافع الحقيقي وراء كل كلمة ينطق المرء بها، أو عمل يقوم به، أو موقف يتّخذه (والله عليم بذات الصدور).
إنه لا بدّ من الحذر، كلّ الحذر، من الوقوع في آثام، نرتكبها ونحسب أننا نقدّمها في سبيل الله.