لا يخفى على قارئٍ لكتاب الله، ذلك الربط المتكرر بين الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان الصحيح يولّد عملاً صالحاً لا ريب، والعمل الصالح يرتكز على الإيمان، والإيمان الذي لا يولّد عملاً صالحاً إيمان كاذب أو هو ضعيف واهٍ، والعمل الذي لا ينبثق عن إيمان لا قيمة له عند الله.
نقرأ قول الله سبحانه: ﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً﴾. سورة الكهف: 110
ونفهم منه، كما قال السلف الصالح، أن العمل المقبول عند الله ما أخلص صاحبُه النية لله (وهو وصف مؤكِّدٌ للإيمان) وكان موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. أي إن العمل الصالح هو ما اجتمع فيه صلاح الظاهر والباطن، فصلاح الظاهر هو موافقة العمل في شكله لما جاء به الشرع، وصلاح الباطن أن يقصد المؤمن بعمله وجه الله تعالى.
وهنا لا بد من التفريق بين العبادات المحضة، كالصلاة والصيام، وهي لا تصح إذا لم يقصد بها وجه الله، وإذا شابت نيةَ العبد شائبةٌ وقع في الرياء والشرك الخفي… وبين الأعمال الأخرى التي تصح من غير هذه النية، فإذا قصد بعمله وجه الله فقد أصبح العمل عبادة يثاب عليها.
ومن المناسب أن نذكر أن النية التي تعني إخلاص العمل، والتي تتوقف عليها صحة العبادة، يجب أن ترافق العمل وأن لا يتبعها ما ينقضُها. اقرأ معي قول الله تبارك وتعالى: ﴿الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يُتْبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذى… ﴾ سورة البقرة: 262. فالإنفاق يجب أن يكون ابتداءً في سبيل الله، وألا يَتْبَعه مَنٌّ ولا أذى، فالمَنُّ والأذى يتعارضان مع إخلاص النية لله.
أما الأعمال الأخرى التي يفعلها الإنسان باجتهاده، لكسب رزق، وتحقيق لذة من لذائذ الحياة… فيكفي فيها أن لا تتعارض مع شرع الله، فإذا تحرى الإنسان فيها وجه الحلال والحرام، وحَرَص على التزام أحكام الله فيها فله أجر بقَدْر ذلك، لا سيما إذا استشعر أنه يُشبع رغباته بالحلال ويكفّ نفسه عن الحرام، ويقصد نفع الأمة بعمله… وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: “قالوا: يا رسول الله. يأتي أحدنا شهوته ويكونُ له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”.
وفي كل عمل يعمله المؤمن يجب أن يلاحظ رقابة الله تعالى عليه ثم رقابة المجتمع المسلم ﴿وقل: اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون. وستُرَدُّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ سورة التوبة: 105.
وإذا كانت ثمرة رقابة المجتمع أن يحقق له القبول الاجتماعي، فإن ثمرة رقابة الله تعالى هي رضوانه وثوابه وجنته.
وإذا تحققت رقابة الله ثم رقابة المجتمع فإن المؤمن يحرص على إجادة العمل وإتقانه وإحسانه، والإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه” [من حديث رواه مسلم]، و”إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”. رواه الطبراني والبيهقي.
والكلام الذي ينطق به العبد هو من عمله الذي يحاسَب عليه ﴿ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد﴾ سورة ق: 18.
وحين يقول العبد كلاماً طيباً فعليه أن يتبعه بما يصدّقه من الأعمال والسلوك:
﴿يأيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون. كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون﴾ سورة الصف: 2 و3.
﴿إليه يصعد الكلم الطّيّب، والعمل الصالح يرفعه﴾ سورة فاطر: 10.
قال مجاهد بن جبر: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وقال إياس بن معاوية: لولا العمل الصالح لم يُرفَع الكلام، وقال الحسن وقتادة: لا يُقبَل قول إلا بعمل.
ونوع من العمل هو أشرف الأعمال في الإسلام، يغفُل عنه قوم، ويتغافل عنه قوم، لأنه ثقيل على نفوسهم، ألا وهو الجهاد في سبيل الله، بدءاً من جهاد الكلمة، ومروراً بالجهاد بالمال، وانتهاءً بالجهاد بالنفس.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام [من حديث رواه الترمذي].
ونعى القرآن الكريم على أناس استسهلوا بعض العبادات، وصَعُب عليهم القتال في سبيل الله فقال عنهم: ﴿ألم ترَ إلى الذين قيل لهم: كُفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كُتِب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشَوْن الناس كخشية الله أو أشدّ خشية؟. وقالوا: ربنا لمَ كتبتَ علينا القتال؟! لولا أخرتنا إلى أجل قريب؟! قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلَمون فتيلاً﴾ سورة النساء: 77.
ولا غرابة في ذلك فالقتال تكرهه النفوس لأنه يعرضها لإزهاق الروح وذهاب المال، ويُتْم الأولاد… لكن القيم العليا التي تتحقق بالجهاد والاستشهاد تستحق هذه التضحية ﴿كُتِب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ سورة البقرة: 216.
فإذا كان التبواطؤ عن الجهاد ناشئاً عن الجهل بأهدافه العظيمة، وبضرورته للحياة السعيدة للمجتمع، فلا أقلّ من أن نسلّم لعلم الله الذي شرع لنا الجهاد وكتب علينا القتال ﴿والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾.
وإذا كان هذا التباطؤ ناشئاً عن التعلّق بالحياة الدنيا وزينتها فـ﴿قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى﴾ سورة النساء: 77. والذي يقضي مجاهداً في سبيل الله فقد اصطفاه الله شهيداً، وجعله حياً يرزق عنده في جنات عدن: ﴿ويتَّخِذَ منكم شهداء﴾ سورة آل عمران: 140. ﴿ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل أمواتاً، بل أحياءٌ عند ربهم يرزَقون﴾ آل عمران: 169، فإذا كان كل الناس يموتون فإن الشهيد حيّ عند ربه يُرزَق!!.
والمجتمع المسلم الذي تستقر هذه المعاني في قلبه، وتصبح جزءاً من ثقافته لا يمكن أن يلوم المجاهدين والشهداء، وأن يسفِّه مسلكهم كالذي نسمعه من بعض الجاهلين، بأن فلاناً الذي قاتل واستُشهد قد جنى بحق زوجه وأطفاله وتركهم بلا معيل!!. ونحو ذلك من الكلام الذي لا ينبغي أن يصدر عن مؤمن عرف أن الحياة والموت بيد الله و﴿أينما تكونوا يدركْكم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة﴾ سورة النساء: 78، وعرف مقام الشهيد عند الله.
العمل الصالح دأب المؤمن، وهو ثمرة لإيمانه بالله. والجهادُ في سبيل الله من أعظم الأعمال الصالحة التي يتشوّف المؤمن أن ينال شرفها، وأن يحظى عند ربه بالمقام الذي أعده للمجاهدين.
ومن شؤم الجبن أن تجد قوماً يتفقهون في أبحاث الجهاد ليبحثوا لأنفسهم عن أعذار تسوّغ لهم القعود، وعن مطاعن يغمزون بها من خَلًصَتْ نفسه لله وانخلع من الجبن وجاهد في سبيل الله، لأنه يعرِّيهم أمام أنفسهم ويُشْعِرُهم بهبوط همّتهم وتثاقلهم إلى الأرض، بمقابل السموّ الذي وصل إليه المجاهد. إنهم كالغني البخيل الذي يبحث عن فتاوى يتّكئ عليها ليجعل بعض أمواله معفيّة من الزكاة ﴿ومن يبخلْ فإنما يبخلُ عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء. وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ سورة محمد: 38
اللهم فقهنا في الدين، وارزقنا العمل به والإخلاص لك، والجهاد في سبيلك