قد يبدو هذا الدعاء قاسياً، لذلك يجدر بي قبل المضيّ في المقالة أن أوضح أنه ليس من إنشائي، وإنما هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. في حديث جابر وابن عباس: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشَجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابَه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: “قتلوه قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العَيّ السؤال؟ إنما كان يكفيه أن يتيمّم ويَعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده”.
فإذا كان -عليه صلاة الله وسلامه- قد دعا على مَن قتل بجهله وبتكلّفه وتنطّعه فرداً من أفراد المسلمين، فما يقول فيمَن يقتل بجهله وتكلّفه وتنطّعه أمةً من المسلمين؟
من القواعد المشهورة عند الفقهاء أن الوجوب يتعلق بالاستطاعة، فلا واجبَ مع العجز ولا حرامَ مع الضرورة، وهو المبدأ الذي يعبّر عنه الأصوليون بقولهم في بعض قواعدهم الجامعة: “لا تكليفَ مع العجز”، كما يقولون إن من شروط التكليف أن يكون المكلَّف قادراً على فهم الخطاب وأن يكون قادراً على فعل الخطاب، فإذا سقطت القدرة فلا تكليف. ألا ترون كيف سقط القيام في الصلاة -وهو ركن فيها- بالعجز عنه؟ وكيف سقط بالعجز ركنٌ كامل من أركان الإسلام الكبرى، الحجّ الذي لا يتعيّن إلا على المستطيع {مَن استطاع إليه سبيلاً}؟
إن من أعظم خصائص ديننا العظيم أنه يراعي قدرةَ الفرد وقدرةَ الجماعة، فلا يكلّفه ولا يكلّفها بما هو فوق الوُسع. هذا المنهج قرره تبارك وتعالى وهو يصف حدود التكليف المَنوط بالفرد فقال: {لا يكلف الله نفساً إلا وُسعها}، وقرره وهو يصف حدود التكليف المَنوط بالجماعة فقال: {فاتقوا الله ما استطعتم}. ثم تواترت الآيات التي تؤكد اليُسرَ وتنفي الحرَج، كما في قوله تبارك وتعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، وقوله: {فمَن اضطُرّ غيرَ باغٍ ولا عَادٍ فلا إثمَ عليه}، وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}… إلى آخر هذه الآيات، وهي كثيرة في القرآن.
وإن المتتبع لهَدْي النبي صلى الله عليه وسلم وسنّته لَيلاحظ بلا عناء أنه لم يأمر بما يتجاوز الوسع قط، بل إنه قرر المنهج المقابل، منهج القدرة والاستطاعة. فمن ذلك قوله: “خذوا من العمل ما تطيقون”، ومنه قوله في القاعدة النبوية الجامعة: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم”. قال النووي: “هذا الحديث من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أُعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يُحصى من الأحكام”.
إننا نجد من صياغة الآية العظيمة {وما جعل عليكم في الدين من حرج} أنها قاعدة عامة للفرد والجماعة، والحرجُ مرفوع عن كلَيهما، فإذا لم يَجُزْ إحراجُ الفرد وتكليفه بما لا يطيق من العمل، فكيف يجوز إحراج الأمة وتكليفها بما لا تطيق من استعداء القوى العالمية ومحاربة أكثر دول الأرض؟ وكما أنّ مطالبةَ الفرد بما هو فوق طاقته حرجٌ مرفوع فإن مطالبةَ الأمة بما هو فوق طاقتها حرجٌ مرفوع أيضاً، بل إن رفع الحرج عن الأمة مقدَّمٌ في حالة ركوب الاضطرار المُفضي إلى الهلاك، لأن هلاك الفرد محمول وهلاك الأمة غير محمول.
فإذا علم المجاهدون في سوريا أن الدعوة إلى دولة الخلافة من شأنها أن تؤلّب عليهم العالَمَ وتعرّض جهادهم إلى الخطر، وأن مجرد التصريح بالسعي إلى دولة إسلامية سيطيل محنتهم وعذاباتهم التي تكاد تعجز عن احتمالها الجبال، إذا علموا ذلك جاز لهم أن يُعْرضوا عن التلميح لتلك الغايات والتلويح بتلك الشعارات، بل إنهم قد يأثمون لو صنعوا ذلك وجرّوا على أنفسهم وجهادهم الضرر.
فما بالكم بمن لا يكتفي بالمطالبة بإعلان الدولة الإسلامية في سوريا، بل يطالب السوريين بإعلان الحرب على دول الكفر والشرك والنفاق في شرق العالم وغربه، ولا يقنعه إلا أن يرفع المجاهدون شعاراتٍ تهدد اليهودَ والصليبيين بالذبح وتَعِدُ بتحرير القدس واسترجاع الأندلس وتتوعد بفتح روما وواشنطن وغزو تل أبيب؟
لقد ابتُلي الجهاد في سوريا بقوم لا فقهَ لهم، فمِن شاب فَطير قرأ بعض كتب العلم وحفظ مسائلها ولكنه لم يفتح غلافَ كتاب الواقع ولم يقرأ فيه سطراً، يتصدر للفتوى في كبريات المسائل ويريد أن يَجُرّ أهل الشام إلى معركة مع العالم كله، ومن كهل قاعد في مقصورته في أمان، ترك جهاد المنكر في بلده ومنح نفسه حق “تكفير وتفسيق وتبديع” مَن كتب لثورته وجهاده ميثاقاً مخضباً بالدماء والتضحيات. ما أولئك إلا متكلفون متعسفون لأن طلب ما لا يمكن تكلّفٌ وتعسّف، وما هم إلا متنطعون، هلك المتنطعون، وإلاّ يؤخَذ على أيديهم يُهلكوا الناس.
أرأيتم لو قال السوريون اليوم: “نعطي أميركا أو فرنسا نصف إيراد النفط السوري خمسَ سنين على أن يمدونا بالسلاح”، ماذا كان سيقول أولئك المتنطعون؟ أليس هذا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، حين هَمّ بمصالحة غطفان وصرفها عن المدينة مقابل منحها ثُلُثَ ثمار المدينة؟ أصنع النبي ذلك جبناً وخوفاً على نفسه وأنفُس أصحابه؟ معاذ الله، فإنه أشجع الشجعان. إنما صنعه خوفاً على الدين وعلى جماعة المسلمين لا على أفرادهم، لأنه علم أن تحميل الجماعة حملاً ثقيلاً من شأنه أن يهدد وجودها. وإن تحميل الثورة السورية اليومَ ما لا تطيق لَيوشك أن يعرّضها للفناء لا قدّر الله.
ثم هل يلزم لتطبيق الشرع إصدارُ بيانات ونشرُ إعلانات ليرضَى عنا أولئك النفر المتنطّعون؟ لقد لبث المجاهدون في سوريا يحررون المناطق واحدةً بعد أخرى، وكلما حرروا مدينة أو ناحية أنشؤوا فيها المحاكم والإدارات الشرعية، فماذا يسمَّى هذا إن لم يكن حكماً بالإسلام؟ ثم لمّا أصدروا ميثاقاً وتجنّبوا الإشارة فيه إلى دولة إسلامية (وخيراً فعلوا) رشقهم بسهام النقد كل سقيمِ علمٍ حديثِ سنٍّ من المتكلفين والمتنطعين. هؤلاء لا يسرّهم أن يأكل المجاهدون العنب، إنما يرضيهم أن يَفنَى نصفُ السوريين في قتال الناطور الرابض على صدورهم وقتال حلفائه من سائر النواطير.