اعتبر الدواعش الحملةَ الأخيرة عليهم دليلاً على صحة منهجهم وسلامة مشروعهم ودليلاً على عمالة خصومهم الذين يحاربونهم في سوريا، واغترّ بهذه الدعوى عوام المسلمين الذين يجهلون حقيقة داعش ويجهلون ملابسات الصراع بين داعش وقوى الثورة السورية.
إن الكذبة الكبرى التي يحاول الدواعش ترويجَها وإقناعَ عوام المسلمين بها هي أن مجاهدي سوريا الذين يقاتلون داعش متحالفون مع القوى الدولية التي أعلنت الحرب عليها مؤخراً، وهذه الكذبة القبيحة توصلهم إلى استنتاج غبي يقول إن المجاهدين السوريين يوالون الكفار في حربهم على المسلمين.
لقد كذب الدواعش دائماً حتى كُتبوا عند الله من الكذّابين، والله يعلم إنهم يعلمون أنهم كذّابون وأنهم يَلبِسون بهذا الافتراء على عوام المسلمين، ويعلمون أن معركتهم الحقيقية هي مع مجاهدي سوريا التي يريدون احتلال قسم منها لإقامة مشروعهم المشبوه عليه، وأن معركتهم مع أميركا وحلفائها ليست سوى معركة وهمية وتنازع على النفوذ.
إن الحقيقة التي ينبغي أن يدركها كل واحد من أهل سوريا خاصة ومن إخواننا المسلمين عامة هي أن الغرب يخوض معركته المحدودة مع داعش فيما نخوض نحن معركتَنا المفتوحةَ معها، وأنّ تقاطع المعركتين في جزء يسير لا يدل على أنهما معركة واحدة أبداً. إنك تركب الحافلة لتقطع المسافة بين بيتك وعملك كل صباح، فربما صعد إليها بعد ثلاث محطات راكبٌ غريب ونزل منها قبل محطتك الأخيرة بمحطتين، فإذا رآه من لا يعلم ظن أنه رفيقك في الرحلة، وهذا دأب الذين يحكمون على الظاهر ويرون الجزء الصغير المحدود من المسألة ويعجزون عن استيعابها بتمامها وشمولها، أما المراقب الحصيف فإنه يدرك أنّ لك بدايةً غيرَ بداية ذلك الراكب العابر وغايةً غيرَ غايته، ولو اشترك معك في القَدْر اليسير من الطريق.
لقد بدأنا بالتحذير من داعش وخطر داعش منذ أحد عشر شهراً، ولم يشاركنا في التحذير أحدٌ من الذين ملؤوا الجرائد والفضائيات أخيراً بمئات الأحاديث والمقالات في نقد داعش والهجوم عليها. لقد كانوا نياماً حين كنا أيقاظاً وكانوا ساكتين لمّا ملأنا الدنيا بالضجيج، لأنهم لا يكتبون لله ولا للأمة بل يكتبون إرضاء للسلطان ولمن يدفع لهم المال، وسوف يسكتون حينما يأتيهم الأمر بالسكوت أو ينقطع عنهم التمويل. ليست معركتُهم هي معركتَنا ولو تشابه الخطابُ مع الخطاب في بعض الطريق؛ شتّانَ بين نائحة ثكلى ونائحة مستأجَرة.
ولقد بدأنا بالدعوة إلى قتال داعش منذ ثمانية أشهر، ثم حمل مجاهدونا الصادقون السلاحَ لوقف بغي داعش وعدوانها على أهل سوريا حينما لم يُبالِ ببغيها وعدوانها أحدٌ من الذين تصدّروا للدعوة إلى قتالها اليوم. ليست معركتُهم هي معركتَنا ولو بدا أنهم يقاتلون داعش كما نقاتلها؛ شتّانَ بين من يدافع عن النفس والأرض والعرض ومن يدافع عن المصالح والنفوذ.
الخلاصة: نحن قاتلنا داعش وسوف نستمر في قتالها دفاعاً عن أنفسنا، دفاعاً عن حريتنا وكرامتنا وأرضنا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا، وأميركا تقاتلها دفاعاً عن مصالحها وتكريساً لمؤامراتها على المسلمين، وسوف تتوقف عن قتالها عندما تحقق أهدافَها وتضمن مصالحَها في سوريا والعراق، غيرَ مبالية بأرواحنا وحقوقنا وحريتنا التي استباحتها كلَّها داعش لتبني على أنقاضها مشروعَ الغدر والعقوق.
سوف يجادل الدواعش وأنصارهم في الحقيقة الكبيرة التي أوضحتها آنفاً، حقيقة أن معركة أحرار سوريا ومجاهديها مع داعش لا علاقة لها بالحملة الدولية عليها لا من قريب ولا من بعيد، وسوف يطبّلون ويزمّرون لمعركتهم المزعومة مع قوى الشر في العالم، ولعل إعلامهم الكاذب يجد مدخلاً إلى بعض الحَيارى والمترددين. هؤلاء الحَيارى المترددون لا يحتاجون إلى تحليلات ودراسات مطوَّلة ليقتنعوا بأباطيل وأضاليل داعش، يكفيهم أن يطّلعوا على جملة من الحقائق:
1- قامت داعش باجتياح واحتلال مساحات واسعة في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة وحلب في سوريا ومحافظات صلاح الدين ونينوى والأنبار في العراق دون أي مقاومة من نظامَي الأسد والمالكي، بل إن النظامين سهّلا لداعش احتلال تلك المحافظات، إما بالانسحاب الكامل كما جرى في العراق أو بقصف الخصوم كما جرى في سوريا.
2- استمرت داعش على مدى تسعة أشهر في تسيير الأرتال ونقل الأسلحة والذخائر والمقاتلين على الطرق الرئيسية داخل سوريا وبين سوريا والعراق ولم تتعرض إلى أي مضايقة أو تهديد أو قصف، لا من طائرات النظام ولا من الطائرات الأميركية، مع أن الأقمار الصناعية الأميركية التي تحلق فوق سوريا والعراق تستطيع رصد وتصوير قطعان الماشية وأسراب النمل من ارتفاع ألف ميل.
3- سمحت أميركا لداعش -بالتواطؤ مع النظامين السوري والعراقي- بالسيطرة على كميات هائلة من الأسلحة، رغم أنها كانت قادرة على ضربها ومنع داعش من امتلاكها، في حين أنها أصرّت بحزم وصرامة على منع وصول أي أسلحة نوعية لثوار سوريا منذ خريف عام 2011 إلى اليوم، بل إنها أحكمت حصارها على المجاهدين منذ بداية هجوم داعش الجديد في أوائل نيسان الماضي وحرمتهم من أي ذخيرة أو سلاح.
4- سمحت أميركا لداعش بالتمدد في سوريا والعراق بلا أية عوائق ولم تتدخل إلا عندما تجاوزت داعش الحدود المسموح لها بها، عندما شكلت تهديداً حقيقياً للأكراد الذين صرّح الرئيس الأميركي مؤخراً بأنهم “أفضل ما في العراق”، والذين لم تحترم داعش الاتفاق غير المعلَن على تقاسم الأرض وترسيم الحدود بين دولتهم والدولة البعثية الداعشية الجديدة.
5- اقتصر العمل العسكري الأميركي المحدود على إبعاد داعش عن مناطق الأكراد في العراق ولم يتعرض لها في سوريا بأي أذى، ولا بطلقة واحدة. وحتى لو أن أميركا تدخلت ضد داعش في سوريا في وقت لاحق (وهو أمر يمكن أن يحصل بصورة محدودة جداً) فلن يكون تدخلها إلا استكمالاً للمؤامرة وتكريساً للتقسيم الجديد.
لقد بات مؤكداً (كما كان واضحاً من قبل) أن الولايات المتحدة لا تريد إعاقة تقدم داعش على الأرض السورية، وأنها راضية عن سيطرتها على المحافظات الستّ في سوريا والعراق، بل إنها حريصة على تمدد داعش في تلك المناطق وتعمل على تكريسه وتحويله إلى أمر واقع، وهي تحرم المجاهدين في سوريا من السلاح الذي يحتاجون إليه لمواجهة داعش وتعوق أي جهد يبذلونه لوقف العدوان الداعشي.
إننا نتأكد يوماً بعد يوم من هذه الحقيقة المرعبة: إن داعش هي “حصان طروداة” الذي صُنع لاختراق الثورة السورية وهدمها على رؤوس أصحابها، وقد استطاع تنفيذ مهمته القذرة بنجاح كبير حتى اليوم. إن داعش هي أكبر تهديد لجهاد أهل الشام وهي أعظم الكوارث التي كرثت سوريا في السنوات الأخيرة. إن داعش هي أَولى أعداء الثورة السورية بالقتال، قتالاً لا تردّدَ ولا تهاونَ فيه حتى الاسئصال.