أنا من جيل فتح عينيه على الدنيا في وقت سادت فيه “نظرية المؤامرة”، فكان شغلنا الشاغل تفسير كل ما ينزل بالمسلمين من كوارث ومصائب بهذه النظرية، والبحث عن كتب المؤامرات وقراءتها، من نوع “أحجار على رقعة الشطرنج” و”حكومة العالم الخفية” و”بروتوكولات حكماء صهيون”.
لكن ذلك الجيل بدأ يضيق ذرعاً بإسناد كل مصيبة تصيبنا إلى أولئك الأعداء الأخفياء وبدأ يبحث عن أسباب أكثر وضوحاً، وخيراً فعل؛ ذلك لأن الانسياق المبالَغ فيه وراء تلك الأفكار أورث الأمةَ شعوراً بالعجز، وبلغ الإحباطُ بالناس غايتَه وهم يتصورون أنهم يواجهون عدواً لا قِبَل لهم به ولا طاقة لهم بحَربه، حتى انتهينا إلى السلبية والاستسلام والفشل المُشين.
كان التخلص من تلك الأفكار وسيطرتِها على العقول أمراً إيجابياً، ولكن ردة الفعل كانت قوية (كما يحصل دائماً) فانتقل الناس إلى الجانب الآخر، وباتوا لا يتوقعون أيّ فعل لعدونا في الخفاء ولا يصدقون بأن أي شر في حياتنا يمكن أن ينشأ من مؤامرات ينسجها أعداؤنا ونحن عنها غافلون. والناس من طبائعهم الانتقال من أحد طرفَي المسألة إلى آخر؛ كم شاباً كان موغلاً في الحرام ثم تاب فتصوف أو تَدَعْوَش، وكم واحداً انتقل من التزمّت والتكفير إلى الكفر والانحلال والضلال؟ مثل هؤلاء كثير.
كنت أنا من الذين ثاروا على “نظرية المؤامرة” ونبذوها رافضين الاعتراف بأن ما نحن فيه من هوان سببُه مؤامرات أعدائنا، وصارت هذه النظرية عندي محلَّ تهكم واستهزاء بعدما كانت المرجع الذي يفسّر أكثر الحوادث المؤلمة التي تحدث في عالمنا الإسلامي. لكن الأرض مكوّرة! اكتشفَت ذلك بعثةُ ماجلان عندما عادت إلى إسبانيا واحدةٌ من السفن الخمس التي انطلق بها في رحلته الاستكشافية الشهيرة، بعدما مات هو وتحطمت أربعٌ من السفن، فأثبتت تلك الرحلةُ الحقيقةَ التي نازع فيها الناس من قبل قروناً طويلة.
وبطريقة مماثلة وجدت أنني درت دورة كاملة فعدت من حيث بدأت، لكن دورتي استغرقت بضعَ عشرةَ سنةً وليس ثلاثَ سنوات كدورة سفينة ماجلان! عدت بعد سنوات طويلة إلى “نظرية المؤامرة” مرة أخرى، ولكنْ ليس عودةَ مَن يقول إن لعدونا من القدرة ما لا يكون إلا لله كما ظن بعض البُله من الناس، تعالى الله علواً كبيراً، بل من يقول إن لهذا العدو من الدهاء ما لا يكاد يمتلك مثلَه إبليس، وهو عدو عنيد يمتلك المالَ والقوةَ بلا حساب والشرَّ والدهاءَ بلا حدود، وقد جهر بحربه على الإسلام والمسلمين فلا يحتاج إثباتُ عدائه لنا إلى شواهد، وحربُه معنا حربُ عقيدة ومصلحة ونفوذ ومال، فكيف يتصور العقل السليم أن هذا العدو لا يضع الخطط في السرّ وأنه لا يتخذ كل سبب ويلجأ إلى كل وسيلة ليكسب الحرب؟
ألا نكون في نبذنا نظريةَ المؤامرة النبذَ كله مغفلين كما كنا -حين فسرنا بها كل حدث في حياتنا- عاجزين؟ أين الوسط الذي هو خير الأمور فنعترف بأنّ وراء الستار قوةً شريرةً عظيمةً تخطط وتفكر وتدبر وتكيد لهذه الأمة، من غير أن ننجرف مع هذه الفكرة حتى نعزو كل مصيبة تصيبنا (وكثيرٌ ممّا يصيبنا من كسب أيدينا) إلى مؤامرة على الأمة وأحرار الأمة الشرفاء؟
أما أنا فهذا هو مذهبي اليوم؛ أنا على يقين أن ما نراه من عدوان أعدائنا علينا ليس سوى رأس جبل الجليد، وتحتَ الرأس الجبلُ كله: المكر والتخطيط والإعداد وتنفيذ المؤامرات في الخفاء. إنها عقول كثيرة جداً شريرة جداً ثرية جداً نشيطة جداً، ونحن غافلون نائمون. حين نغدو على يقين من أن “المؤامرة” كبيرة لهذه الدرجة فليس المطلوب أن نشعر بالعجز ونسقط ضحيةَ الإحباط، بل المطلوب أن نفتح الأعين والآذان لاستشعار المؤامرة قبل وقوعها، وأن نستفزّ الهمم ونستثمر القدرات والطاقات التي تملكها الأمة، فنضع لمواجهة المؤامرات أفضلَ الخطط ونردّ عليها بأذكى الأساليب.
الخلاصة
إن أعداءنا يتآمرون علينا بالليل والنهار؛ إنهم يستيقظون ونحن نائمون، ويعملون ونحن قاعدون، ويخططون ونحن غافلون… بل إننا كثيراً ما نكون نحن الأدوات التي ينفذون بها هذه المؤامرات ونحن جاهلون! وقد آن الأوان لكي نستيقظ بعد نوم، ونعمل بعد قعود، ونَعِي بعد غفلة، ومهما كان عذرنا فلا أقلّ من أن نمتنع من أن نكون أدوات ينفذون بها المؤامرات.