1- لا أستطيع أن أنسى تلك المشاهد: جثث الغرقى منثورة على رمال الشاطئ، طفلة صغيرة ميتة رفعوها عن الأرض فتهدّلَت ككيس من قطن، صورة طفل رضيع لم يعرف أحدٌ مصيرَه، فبحث أبواه عنه يومين ثم أيِسَا من العثور عليه، فانطلقا إلى دول الشمال وما يعرفان: أيخلّفان وراءهما مَيْتاً فيُرثَى أم حياً فيُرجَى؟!
ما حملكم على ذلك يا أحرار سوريا؟ لماذا أتعبتم قلوبنا فحمّلتمونا هَمّاً فوق هَمّ، وزدتم الألم ونثرتم الملح على الجراح؟ أفرارٌ من قدَر إلى قدَر؟ وما أدراكم أنكم في بلدكم بين أهليكم أكثرُ أماناً منكم في لُجّ البحر؟
أيُّ يوميَّ من الموت أفِرّ؟ *** يومَ لا يُقدَرُ، أو يومَ قُدِرْ؟
يومَ لا يُقدَرُ لا أحذرُهُ *** ومن المَقدور لا ينجو الحَذِرْ
2- ما الذي يدفع السوريين إلى الهجرة بقوارب الموت وهم يعلمون ما يكتنف تلك الرحلةَ من أهوال وأخطار؟ إنما هما سببان: خوف من واقع حاضر، أو رغبة في حياة أفضل.
لو طوّفنا في سوريا كلها من أدناها إلى أقصاها فلن نجد مساحة آمنة، ولا شبراً في شبر، فقد أحال النظام المجرم حياةَ السورين جميعاً إلى خوف، خوف من الموت بالقصف في المناطق المحررة، ومن الجوع والمرض في المناطق المحاصرة، ومن الاعتقال والتعذيب في المناطق المحتلة، فثَمّ لم يجد كثيرٌ من السوريين إلا الفرارَ بأنفسهم وأولادهم إلى بلاد الحرية والأمان. هل يُلامون؟
لا نستطيع أن نلوم من يعيش في عين الخطر فيصبح ويُمسي على رائحة الموت إذا فكر في الهجرة والفرار. ليس لومُ أولئك المعذَّبين حقاً لي ولا لأمثالي من الآمنين، ولكن النصيحة حق للأخ على أخيه، فما يمكن أن نقدمه هو رأي ونصح لا عتاب وتثريب.
3- من كان يعيش في المناطق المحتلة في خطر حقيقي، كأن يكون ناشطاً مكشوفاً مطلوباً بالاسم، فإن هجرته مبرَّرة، بل إنها واجبة، وهو يطالَب بالخروج من منطقة الخطر حفاظاً على نفسه لأنه سيُعتقَل عاجلاً أو آجلاً. ولكنا لن ننصحه أبداً بركوب البحر والهجرة إلى البلد البعيد، بل سنقول إن هجرته واجبةٌ ابتداءً إلى المناطق المحررة، ففيها يبتعد عن الخطر ويصبح في أمان نسبي ويستطيع مواصلة نشاطه الثوري وهو وسط أهله وذويه.
لكن ماذا لو أنه تعب أو يئس وأراد التقاعدَ والانسحابَ من الثورة والهجرةَ من سوريا كلها، أنستطيع منعه؟ لا، ولا نستطيع كذلك منع سواه من الذين يريدون الهجرة بحثاً عن حياة مادية أفضل، ولكننا ننصح الاثنين قائلين: إذا كنت عازماً على الهجرة ولا بدّ فلماذا لا تهاجر إلى بلد قريب، إلى تركيا؟ إنك -لو فعلت- لن تركب البحر وتخاطر بنفسك وزوجك وبنيك، وسوف تعيش مكرّماً في بلد آمن تجد فيه فرصة للعمل والاستقرار وتعليم الأولاد، وستظل قريباً من سوريا فتعود إليها ولو في زيارات متقطعة بين حين وحين، وإن كنت راغباً بالمساهمة في النشاط الثوري فما أكثرَ المؤسسات الثورية التي تعمل على الأراضي التركية.
4- تخبرنا الإحصاءات التي نشرتها منظمة الهجرة الدولية أن الضحايا الموثقين للهجرات غير الشرعية بقوارب الموت في البحر المتوسط بلغوا ثلاثة آلاف في النصف الأول من هذا العام، أي أنهم سيبلغون ستة آلاف إذا بقي معدل الهجرة كما هو الآن. فإذا عرفنا أن هذا المعدل في ازدياد أسبوعاً بعد أسبوع، وليس شهراً بعد شهر، وأن رحلات كثيرة لا يمكن تَعَقُّبها ومعرفةُ مصير ركابها بسبب الطبيعة السرية للهجرة غير الشرعية، فإننا نستطيع أن نقدّر عدد الضحايا خلال هذه السنة بعشرة آلاف غريق على الأقل.
عندما نقيس هذا العدد إلى عدد الذين نجحوا في الوصول إلى البر الأوربي في عام كامل، وهم مئة وثلاثون ألفاً، فسوف نكتشف أن نسبة الخطر تبلغ ثمانية في المئة تقريباً. أي أن ثمانين سوف يموتون غرقاً من كل ألف مهاجر. هل فكر أحدٌ من المهاجرين في مقارنة هذه النسبة بنسبة الخطر في المناطق المحررة التي تتعرض للقصف اليومي؟ إننا نفقد نحو عشرين ألف شهيد بسبب كل أنواع القصف العشوائي على المناطق المدنية في عام كامل تقريباً، ويبلغ عدد الذين يعيشون في تلك المناطق قرابة عشرة ملايين. أي أن اثنين من كل ألف مدني سيموتون بالقصف في المناطق المحررة في سوريا في سنة كاملة.
النتيجة الصادمة: إن الحياة عاماً كاملاً في المناطق الخطيرة في سوريا أكثرُ أماناً بأربعين ضعفاً من رحلة واحدة في قوارب الموت.
5- لو اقتصر الخطر على النفس لقلنا للمهاجر: خاطر بنفسك إن شئت. ولكن أولئك المهاجرين لا يخاطرون بأنفسهم فحسب؛ إنهم يخاطرون بأطفالهم الصغار الذين ابتلع البحر منهم إلى اليوم مئات ومئات ومئات. كيف يطيب لأبوَين أن يركبا مع طفلهما مركباً من تلك المراكب وهما يعلمان أن الاحتمال كبير بأن يصلا إلى الطرف الثاني من البحر بلا طفل أو يصل الطفلُ بلا أبوين؟
ولا تظنوا أن المخاطرة تقتصر على الغرق وحده يا من عزمتم على الهجرة، بل إن الخطر أكبر من ذلك بكثير. في بعض الرحلات فصل المهرّبون بين الرجال والنساء وساقوا كلاً منهم إلى جهة، ثم اعتدوا على بعض النساء أو اختطفوا فتيات لم يُعرَف مصيرهنّ إلى اليوم. وفي رحلات كثيرة جرّدوا المهاجرين من كل ما يملكون، من الأموال والحليّ وأجهزة الاتصالات والوثائق الشخصية. وفي رحلات أخرى سلّموا المهاجرين لعصابات إيطالية أو يونانية، وانتهت بعض الرحلات بإغراق المراكب عمداً فمات مَن مات وأنقذت سفنُ الإنقاذ آخرين، وفي مرة من المرات قذف المهربون المهاجرين على جزيرة صغيرة مقابل البر التركي وتركوهم بلا طعام.
6- ليست الرحلة في قوارب الموت مغامرة كأي مغامرة، إنها مخاطرة بالنفس والنفيس، إنها مقامرة بالأرواح والأولاد. أيقامر عاقلٌ بنفسه أو بزوجته أو بأطفاله على طاولة قِمار؟
إن المهاجرين يُسْلمون أنفسهم، الرجال والنساء والأطفال، للقراصنة والمهرّبين. ومَن هؤلاء المهرّبون؟ أهم خيرة خلق الله في الأرض؟ إنما هم عصابات من شِرار الخلق، يُسْلم المهاجرون لهم أنفسَهم وهم ضُعُف عُزْلٌ من أي سلاح، والمهرّبون والقراصنة أقوياء مسلحون، فكيف تطيب نفسك يا -أيها السوري الحر- بأن تضع نفسك وزوجتك وأبناءك وبناتك تحت رحمة من لا يؤتمَن على نفسٍ ولا عِرضٍ ولا مال؟
فإذا صاروا في البحر بدأت رحلة الأهوال والأخطار. يحشر أولئك القراصنة والمهربون المئات من المهاجرين المساكين في قوارب بالية متهالكة لا يكاد الواحد منها يحتمل -وهو جديدٌ- مئةً من الناس، فكيف يقطع وهو صدئ قديم ممتلئ بأضعاف ما يحتمله من عدد، كيف يقطع وهو كذلك الرحلةَ وسط الموج الهادر الذي يبلغ ارتفاعُه في بعض الأحيان أربعةَ أمتار أو خمسة أمتار؟ تخيلوا قارباً من تلك القوارب التي نراها في الصور وقد تكدس فيه الرجال والنساء والأطفال كما يتكدس سمك السردين في العلب، تخيّلوه وهو يرتقي موجةً ارتفاعُها كارتفاع بناء من طابق أو طابقين! كم تبلغ فرصة مثل هذا القارب بالنجاة؟
لذلك لم يكن غريباً أن يغرق قارب من كل خمسة، وأن يهلك واحد من كل تسعة من المهاجرين التعساء!
7- فإذا وصل المهاجرون إلى البرّ الأوربي استقبلتهم مصاعبُ ومتاعب لا تُحصَى، فيتعرض كثيرون منهم إلى الإهانة والاعتقال، وربما أُعيدوا إلى حيث كانوا. وما يزال المئات من السوريين عالقين في السجون في مالطا منذ عام.
ويبقى بعد ذلك كله الخطرُ الأكبر على المدى الطويل: إن الذاهبين إلى تلك البلاد قلّما يعودون. إنه ليس قراراً ليومك وغدك يا أيها المهاجر، إنما هو قرار لبَنيك وحَفَدتك وذريتك من بعد. يقولون إن في الأمريكتين عشرة ملايين سوري. من أين جاؤوا؟ إنما هم ثمرة هجرات أهل الشام خلال النصف الأول من القرن المنصرم، من أيام “سفر برلك” وما تلاها من أيام شِداد، ولكن ماذا بقي اليومَ من شاميّة أولئك الشاميين وعربية أولئك العرب وإسلام مَن كان منهم من المسلمين؟ لقد فقدت بلادُ الشام أولئك الملايين من أبنائها إلى الأبد، وفقدوا هم وأولادُهم إلى الأبد اللغةَ والدين.
لا تستهينوا بتحدّي الحفاظ على الهُويّة في بلاد المهجر، فإن قليلاً من الناس من يستطيع تجاوز هذا الاختبار العسير بنجاح. لا أقول إن كل مهاجر يضيّع اللغة والدين، بل إنّ من المهاجرين مَن ينشأ أولادُه أحسنَ عربيةً وأكثرَ التزاماً بالدين من الملايين الذين يعيشون في بلدان العرب والمسلمين، ولكني أتحدث عن الحالة العامة والقاعدة الغالبة، وهي أن الأكثرين يَضيعون؛ إن لم يضع الجيل الثاني ضاع الثالث، وإنْ سَلِمَ الثالثُ ضاع الذي بعده، وما يزال الخطر قائماً على الدوام في الآتي من الأيام.
8- كلمة أخيرة إلى من عزم على الهجرة فبحث عن المهربين أو وصل إليهم واتفق معهم ودفع إليهم المال، ثم قرأ هذه المقالة فلم تنجح في إقناعه بالعدول عن فكرته، أقول له: إن كنت لا بدّ فاعلاً فإني أذكّرك بأن أولادك أمانة في عنقك، وإني أستحلفك بالله أن لا تغمض عينيك وتمشي مع المهرّبين كالمسحور بلا عقل ولا إدراك.
انسحبْ في أي لحظة تشعر فيها بالخطر. إذا طلب المهربون فصل الصغار عن الكبار أو النساء عن الرجال فلا ترضخ ولا تسمح لبقية الجماعة بالرضوخ. إذا غيّر المهربون الاتفاق فطلبوا المزيد من المال فلا تدفع، فإنه استنزاف ليست له نهاية. إذا وصلتَ إلى الشاطئ فرأيت قارباً عتيقاً مهترئاً فارجع ولا تركب، وحُثّ غيرك على الرجوع. لا تشارك في رحلة لا توزع سترات نجاة على جميع الركاب. إذا أراد المهربون رصّ العدد الكبير في القارب الصغير فثُرْ عليهم أنت وأصحابك وارفض أن تركب أو تُركب أطفالك، فإن هذا سيكون خطّ دفاعك الأخير وتلك آخر طلقة في جعبتك، وهي قد تكون الفيصلَ بين الموت والحياة.
أخيراً فإني أرجوك أن تجعل لآخرتك نصيباً من نيّتك. مهما يكن الدافع الذي دفعك إلى الهجرة أضف إليه نيّة صالحة، رغبة وعزيمة على المحافظة على دينك ودين أولادك، وعهداً على أن لا تنسى بلدك وثورتك، فتعمل من أجلهما وتقدّم ما يسعك تقديمه لهما حيثما كنت، غداً وبعد غد وفي كل حين.