(1) مَن الجاني؟
عندما يقف المحقق أمام الجريمة في الروايات البوليسية فإن أول سؤال يسأله هو: مَن المستفيد؟ إذا سألنا هذا السؤال فإننا سنجد مشقة في تحديد “الذين لا يستفيدون” من هذه الجريمة، لا في تحديد المستفيدين.
إن قائمة المستفيدين الطويلة تضم النظامَ وحلفاءه: روسيا وإيران وحالش والمليشيات الشيعية بأنواعها، وتضم داعش التي نافس أنصارُها وشبّيحتُها أنصارَ النظام وشبيحتَه في الفرح والشماتة بشهدائنا الأبرار، وهي تضم أيضاً طائفةً من القُوى الإقليمية والدولية على رأسها أميركا ورؤوسُ المعسكر الغربي، والعدو الإسرائيلي بالطبع، كما تضم أخيراً طائفة من القوى المحلية التي تمثل طابور الثورة الخامس والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بواحدة أو بأكثر من واحدة من الجهات السابقة.
إذا حاولنا تعقب المستفيد وبَنَينا نظريتنا على اتهامه فسوف يضيع الدم بين القبائل، ومن ثَمّ فلا مناصَ من اتّباع طريق آخر: ما طبيعة هذه العملية ومن يستطيع تنفيذها؟
إذا نظرنا من هذه الزاوية سنجد أن العملية أكبر بكثير من القوى المحلية، بما فيها النظام نفسه وحالش وداعش وبقية القوى الصغيرة. إنها عملية استخباراتية رفيعة المستوى، وإن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ لَتشيران إلى بعضٍ من أعرق وأحذق أجهزة الاستخبارات العالمية. ربما كان مبرَّراً تفكيرُ البعض بالروس لأنهم مختصون بعمليات الاغتيال بالغازات السامة، ولكني -رغم هذه الإشارة- أميل أكثر إلى ربط الجريمة بالعملية السياسية والعسكرية الكبيرة التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة. إنني أكاد أجزم (ولكن بلا دليل حسي قاطع) بأن أميركا هي الجانية، فإما أن تكون أجهزتُها الاستخباراتية هي التي نفذت الجريمةَ مباشرةً، أو أنّ التنفيذ تم عن طريق بعض الوكلاء. إنه سِرٌّ ستكشفه الأيام.
(2) لماذا قادة الأحرار؟
ربما ظن بعض المتابعين للشأن السوري أنّ تشدد حركة أحرار الشام هو الذي جعل ضربها ضرورياً، أما أنا فأرى أن العكس هو الصحيح، فإني أحسب أن الذي قتل هؤلاء القادة الكرام ليس التطرف والتشدد، بل هو الحكمة والاعتدال.
إننا نعلم أن حركة الأحرار هي في أصلها حركة سلفية جهادية تقليدية قريبة في منهجها الفكري من القاعدة، ولذلك فإنها كانت تصنَّف دائماً في يمين الطيف الجهادي الشامي (قبل النصرة مباشرة). وأنا أظن أنها لو بقيت كذلك لكان قادتها في مأمن من الخطر إلى حين، لأن القُوى الغربية التي تدير اللعبة وتسعى إلى النفوذ في بلداننا وإلى تصفية ثوراتنا تستفيد على الدوام من نوعين من حَمَلة السلاح: الغلاة والمتشددين، والفاسدين ومعدومي الضمير.
ذلك هو أصل حركة الأحرار الذي نعرفه، ولكنها لم تبقَ كذلك، بل إنها بدأت -منذ عدة أشهر- بالتحول إلى تيار الوسطية والاعتدال، وقامت بمراجعة جذرية جادة لفكرها ومنهجها، وهي مراجعة نَدَر صدورُها عن جماعة جهادية في ميدانِ جهاد. ولو أن الحركة استمرت في التحول الجديد فإنها ستكون أفضلَ حامل لمشروع التقريب والتوحيد، لأنها ستصبح الجسرَ الواصل بين الفصائل ذات المنهج المتشدد والفصائل ذات المنهج المعتدل، وهنا يكمن التهديد الأكبر لمشروع أعداء الثورة.
إن أعداءنا يحاربوننا بأسلحة كثيرة متنوعة، ولكن أمضى أسلحتهم في حربنا هي التناقضات التي تفرّق بيننا، والتي نصنعها بأنفسنا بدعوى الانتصار لمناهج وبرامج وأفكار ومدارس وتيارات، فتجعلنا شِيَعاً وجماعات متفرقات متنازعات، وهم يعلمون أن القضاء على تلك التناقضات وتجاوز ما بين الجماعات من اختلافات هو أول الطريق إلى القضاء على نفوذهم وهو بداية رحلتنا إلى الاستقلال والانتصار.
لو أن أعداءنا راقبوا ما يجري في المطابخ الفكرية والدعوية لأحرار الشام (ولا بد أنهم يفعلون) فسوف يجدون ما يدعو إلى القلق العميق، وسوف يتعرفون -بلا عناء- على القلب النابض والعقل المدبر الذي يدفع باتجاه إصلاح منهج الحركة وتعديل مسارها، وهو يتكون من كتلة متجانسة يرأسها عدد من القادة الكبار: أبو يزن وأبو عبد الله وأبو عبد الملك وأبو أيمن وأبو سارية ومحب الدين (وكلهم ارتقوا شهداء في الكارثة).
لعل الذين نفذوا هذه الجريمة لم يقصدوا حرمان حركة أحرار الشام من قيادات عسكرية فحسب، بل لعلهم أرادوا أيضاً اغتيال مشروع الإصلاح الفكري والمنهجي لتلك الكتلة الجهادية الكبيرة، وقطع الطريق على جهود التوفيق والتجميع ورصّ الصفوف (ولا أستبعد أن يكون أبو مارية القحطاني على قائمة المطلوبين الأشد خطورة للسبب ذاته، بسبب منهجه الإصلاحي الذي تسبب في إقصائه عن القيادة الشرعية في جبهة النصرة، حماه الله ووفقه إلى إكمال الطريق الصعب الخطير الذي تطوع للسير فيه).
(3) وماذا بعد؟
لو أن أحداً تساءل قبل أيام إن كانت هذه الحادثة الكبيرة الخطيرة معزولةً منفردةً في الزمان والمكان فقد أُجيب سؤاله وتبدّدَ شكّه بعدما تعاقبت الاغتيالات وتتابعت في الشام خلال الأيام الماضية، فصار واضحاً لكل ذي بصيرة أن الثورة تمر في بعضٍ من أخطر مراحلها منذ انطلاقتها المباركة قبل اثنين وأربعين شهراً، وأن استهداف قادة الأحرار ليس سوى حلقة في سلسلة خبيثة متعددة الحلقات.
إنني أجد نفسي عاجزاً عن الفصل بين الحوادث الأخيرة: استهداف قادة الأحرار، وموجة الاغتيالات الآخذة بالتصاعد، والتحالف الأميركي المزعوم لحرب داعش.
أحسب أن هذه الحوادث كلها هي مقدمات لمشروع أميركي شرير ما يزال يُطبَخ على نار هادئة في مطابخ القرار الأميركية منذ ثلاث سنين: “تصفية الثورة السورية وإعادة إنتاج النظام السوري حسب الوصفة الأميركية والدولية”. وإني لأحسّ بالخطر الكبير يحوم حول قادة الجهاد جميعاً، ولا سيما قادة الفصائل الإسلامية المعتدلة والقوية والفاعلة، كجيش المجاهدين وجيش الإسلام وصقور الشام وفيلق الشام والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام.
لا ينبغي أن ننسى أن أعداء الأمة لن يفرّطوا في فرصة ذهبية للتخلص من خصومهم وأعداء مشروعهم على الأرض السورية الغارقة في الفوضى والاضطراب. إن الخطر الشديد يتهدد كل أصحاب المشروعات الإسلامية الوسطية وحاملي الفكر الإصلاحي المعتدل، ولئن كان القادة العسكريون هم المستهدَفين في الظاهر حتى الآن فإن الخطر لا يقتصر عليهم وحدهم، بل إنه يحوم أيضاً حول أصحاب الفكر والرأي والدعوة والعمل المدني والإداري والإغاثي والإعلامي. فريقان فقط سيعيش قادتهما في أمان: الغلاة والعملاء.
(للحديث صلة في المقالة الآتية: الحملة الأميركية لنا أم علينا؟ وما موقفنا منها؟)